الجزء السادس
[2]
الإعلان
عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي
مصطفى بن حليم ..
بعد لقائي بالملك إدريس ( رحمه الله)، وفور عودتي إلى
مانشستر، عقدت العزم على زيارة أبن عمتي مصطفى بن حليم الذى
دأبت ـ دوماً ـ على زيارته والسؤال عنه.
ولم تتوقف هذه العادة فى التواصل معه ـ ومع غيره من الأقارب ـ فى أي
وقت مضى، ولم تحل دونها أية ظروف طارئة كتلك التى فرضها نظام الحكم
الجائر فى ليبيا بمعاقبة كل من يلتقى برموز العهد الملكي السياسية
المغتربة فى أرض المهجر.
وهكذا، لم تنقطع مواظبتي على زيارة بن حليم ـ فى محل إقامته
الدائم بلندن ـ حتى فى فترة وجودي فى ليبيا، والتى كانت
تؤدى فيها مثل تلك الزيارات إلى فقدان المرء لحياته أو الزج به فى
غياهب سجون النظام الفاسد.
فقد كُنت أنتهز الفرصة فى كل مرة تسوقني فيها الظروف إلى مدينة لندن
لتجارة أو سياحة، فأقوم على الفور بالعروج
على منزله لزيارته والإطمئنان عليه.
ومن هنا، قررت زيارته بعد عودتي من لقاء الملك كسالف عهدي،
مغتنماً فى نفس الوقت فرصة هذه الزيارة لأفصح له عن نيتي لتأسيس
الإتحاد الدستوري الليبي، وهذا ما يجعله ـ فى هذا الإطار ـ أحد
أولى الشخصيات الليبية التى يتم إبلاغها بهذا الشأن فى حينه.
وهكذا، توجهت من مانشستر إلى لندن، ثم إلى بيت بن
حليم، لأتبادل معه ومع أفراد أسرته ـ كما هى العادة ـ عبارات
السلام والمجاملات الودية، التى ما كدنا نفرغ منها، ومن تناول وجبة
الغذاء، حتى أعربت له عن رغبتي فى الإنفراد به من أجل الإسرار له
بموضوع هام.
توجه بي بن حليم إلى غرفة مكتبه الخاص، حيث فاتحته بأمر عزمي
على تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي الذى تسعى فكرته لإعادة
الشرعية الدستورية فى البلاد تحت راية صاحبها ومالك شرعيتها القانونية
الملك إدريس السنوسي.
ودار بيننا حديث مطول، سأنقله للقراء ـفيما سيلي ـ بكافة معاني
ومدلولات نصه الكاملة، وليس بالمطابقة الحرفية التامة لكلماته وعباراته
الواردة فيه، والتى مضى على وقوعها قرابة ربع قرن من الزمان.
وفى مستهل هذا الحديث،
أفضت فى شرح فكرة تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي ـ لإبن حليم
ـ من كافة جوانبها وأبعادها السياسية والقانونية والروحية، دون الإشارة
ـ له ـ عن أمر مقابلتي للملك إدريس وحصولي على موافقته الضمنية
فى هذا الخصوص.
ويرجع سبب حجبي لهذا الأمر عن مصطفى بن حليم إلى أني لم أكن قد
قمت ـ بعد ـ بتبليغ رفاقي فى كيان الإتحاد الدستوري الليبي
بتفاصيل ذلك اللقاء وما تضمنه من حصولي على موافقة الملك
بالشروع فى تأسيسه.
وهذا ما يفرض علي ـ تباعاً ـ فى إنطلاق من واقع الإلتزام بالأعراف
التنظيمية، وإعتباراً لضرورة التمسك بالأصول الأخلاقية، ألاّ أبوح لأحد
خارج نطاق دائرة مؤسسي الإتحاد الدستوري الليبي بتفاصيل ذلك
اللقاء، وأن لا يتم، وفقاً لقواعد هذا المنطق، إعلام أحد من غير
الأعضاء المؤسسين ـ مهما بلغت قرابته أو صداقته بي ـ قبل أن يتم إطلاع
هؤلاء الأعضاء بالدرجة الأولى.
ولهذا فضلت أن أُرجي الخوض فى إعلام بن حليم وغيره بأمر لقائي
بالملك بعد القيام بإعلام رفاقي والتشاور معهم فى هذا الشأن.
** * **
استوعب
بن حليم الفكرة التى تقوم عليها أهداف تأسيس الإتحاد
الدستوري الليبي، وأفصح عن مكنون إعجابه المفرط بها، وقال لي فى
هذا الصدد: " يا جدي[1]
إن هذه الفكرة لا يكمن فى تطبيقها تحقيق الليبيين لحلمهم فى الخلاص من
نظام القذافى فحسب، بل أنها هى طوق النجاة لهم من ورطة
انفراط
بركة حكم الرجل الصالح[2]
".
واسترسل بن حليم فى القول: " إذا كان هناك نجاح للقضية الليبية
فى تحقيق أهدافها من أجل تقويض النظام العسكري الحاكم وإعادة الشرعية
الدستورية إلى نصابها المعهود، فإن هذا النجاح المأمول لن يتم ويبلغ
مغزاه المنشود إلاّ بهذه الفكرة النيرة، والتى تقوم ركائزها على تأسيس
الإتحاد الدستوري الليبي، ولكن المعضلة الكبرى يا جدي ـ هنا ـ
تكمن فى صعوبة تحقيق مثل هذه الفكرة، بل فى استحالة تطبيقها وتحويلها
إلى واقع ملموس ".
وما كان مني إلاّ أن سألته عن السبب الذى دعاه إلى إعتبار فكرة
الإتحاد الدستوري الليبي غير قابلة للتطبيق، وجعله ـ من ثمة ـ
يضعها ضمن خانة الأمور المستحيلة المنال.
أسرع بن حليم بمواصلة حديثه فى تقديم أسبابه التى كونت رأيه
وحكمه على فكرة الإتحاد الدستوري الليبي، فقال: " إن فى هذه
الفكرة ـ كما أشرت منذ قليل ـ يكمن الحل الوحيد لبلوغ أهداف الشعب
الليبي فى الخلاص من النظام الحاكم غير الشرعي، وإعادة الشرعية
المصادرة إلى نصابها المعتاد، ولكنها فكرة غير قابلة للتنفيذ، فلو كان
هناك ذرة من الأمل فى تحقيقها لكُنت قد قمت بنفسي بتحويلها إلى أمرٍ
واقع منذ وقت مبكر، ولم أكن لأنتظرك حتى تكبر فى السن[3]
ويشتد أزرك وتبلغ من العمر القدر الذى يمكنك من التفتق عن مثل هذه
الفكرة النيرة، ثم تقوم من بعد ذلك بعرض أمرها علي ".
وتوقف بن حليم هنيهة ليسترسل قائلاً: " إن السبب من وراء عدم
إمكانية تنفيذ هذه الفكرة يتركز بجلاء فى أهم عناصرها القائمة عليها،
وهو موافقة الملك إدريس وقبوله بتنفيذها، ولعلك تعلم بأن الجميع
يعرف بعزوف الملك إدريس عن مزاولة نشاطات الحياة السياسية !
وبصفة شخصية، فأنا أعلم أكثر من أي شخص آخر مدى صحة هذا الأمر الذى
لمسته من الملك نفسه ".
وقال لي بن حليم مواصلاً حديثه: " إن الأمر لا يتوقف عند هذا
الحد، فإذا ذهبنا شططاً، و افترضنا تجاوزاً أنك قمت بالتغاضي عن موافقة
الملك، وشرعت فى تنفيذ الفكرة على أساس أنها ترتكز على قضية
وطنية ـ حيوية ـ يترتب على نتائجها مصلحة الشعب الليبي بأسره، ومن ثمة
فأنك فى هذا المضمار لا تحتاج إلى موافقة الملك إدريس لتنفيذها.
فى هذه الحالة ـ بالذات ـ سوف يسحب الملك إدريس البساط من تحت
أقدامك، معلناً للعالم بأنه لم يفوضك فى هذا الأمر، ولا يقبل ـ من ثمة
ـ الزج به فيه !!. بل إنه ـ ربما ـ سوف يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك
بكثير، وذلك من خلال تصريحه للملأ بأنه ناقم على الليبيين الذين خذلوه
بعد أن أفنى عمره من أجلهم ومن أجل قضيتهم الوطنية، ولا يقبل من ثمة
مساعدتهم أو مد يد العون إليهم !! ".
فبادرت على الفور بسؤاله: " ما هو رأيك إذا قمنا بتذليل هذه العقبة
وحصلنا على موافقة الملك المطلوبة ؟ وما هو موقفك الشخصي ؟ وما
الذى يمكنك تقديمه ـ فى هذا الصدد ـ لقضيتنا الوطنية ؟ ".
فرد مجيباً: " إن هذ فرضية خيالية ليس لها أساس متين تقف عليه ! فدعك
من الإفتراضات غير القابلة للتحقق، فأنا أُحدثك من منطلق الواقع
والتجربة فى هذا الشأن، فقد سبق لي التحدث مع الملك فى هذا
الخصوص، ورفض القبول بمثل هذا الأمر رفضاً باتاً، ولم يكن ذلك من خلال
محاولة ـ منفردة ـ واحدة، بل أقدمت على عرض هذا الأمر على الملك
عدة مرات وفى مناسبات مختلفة، وباءت جميع محاولاتي بفشلٍ ذريع ".
** * **
لم أكن أملك فى حينه سبب يجعلني لا أصدق ما قاله بن حليم، ولكن
واقع الأمر يكاد يفرض علي عدم قبول ما جاء على لسانه من حديث مطول حول
رفض الملك الشديد لقبول الفكرة المنوه عنها، والتى ـ قال أنه قد
ـ طرحها عليه عدة مرات.
ومن هنا، فقد وقعت فى حيرة ـ من جراء ـ ما سمعت من بن حليم ،
فهأنذا قد حصلت على موافقة الملك دون أن تكون لي به معرفة أو
رابطة أو صلة سابقة، ولم أكن فى يومٍ أحد وزرائه أو رئيساً لوزرائه.
بينما فى ذات الوقت ـ ها أنا ـ أسمع من هذا المخضرم الذى خدم فى
وزارات الملك لسنوات طوال، وربطته به صلة ـ قوية ـ فرضتها طبيعة
علاقة عمله فى الإطار المذكور، بأن كافة محاولاته المتعددة لإقناع
الملك بالموافقة على الفكرة المشار إليها قد باءت بالفشل الذريع !.
وقد شعرت فى حينه بأن بن حليم لسبب لا أعلمه يحاول أن يصرفني عن
المضي فى سبيل تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي، وقد عللت ذلك ـ
بنية حسنة ـ على أنه نوع من الحرص منه على سلامتي الشخصية، لما رآه فى
هذا الأمر من مشقة وعناء وخطورة جسيمة.
فقد حاول ـ فى ذلك اللقاء ـ بكل ما يملك من قدرة على الإقناع أن يثنيني
عن عزمي ويهبط من همتي فى شأن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي،
ولم يدخر فى هذا الصدد جهدا
إلاّ وبذله فى محاولة إقناعي بالعدول عن التفكير فى هذا الأمر.
فقال ـ لي ـ ضمن حديثه المحبط: " وحتى لو افترضنا جدلاً إنك قد حصلت
بطريقة ما على موافقة الملك فى هذا الصدد، فأنك حتماً ستصطدم
بعقبة أُخرى لن يكن لك عليها سلطان، وهى سلبية الليبيين وخذلانهم لك،
فشعبك شعب مري[4]
!! ".
** * **
لكني مع كل ذلك لم أفقد الأمل فى استخلاص
وجهة نظره وموقفه من تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي فى حالة
الإعلان عن قيامه فى الفترة القادمة.
فقلت له بتؤدة وأناة وصبر: " دعنا نشطح قليلاً فى عالم الخيال، ونفترض
حدوث المستحيل، وذلك من خلال تصورنا الحصول على موافقة الملك
وعضده وتأييده لتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي. والسؤال الذى
يطرأ هنا، ما هو رأيك الشخصي فى هذا الشأن ؟ وما الحالة التى سيكون
عليها موقفك فى هذا الصدد ؟ فهل ستدعم هذا الكيان القائم على الفكرة
التى تجلها وترى فيها الحل الوحيد للقضية الوطنية ؟ أم أنه سيكون لك
موقف مغاير تفرضه وتحتمه عليك ظروفك الخاصة المحيطة بك ؟ ".
وهنا، سقط فى يد بن حليم، ولم يجد مفراً من تحديد موقفه الصريح
فى إجابة أرغمته على ذكرها تساؤلاتي الملحة، فقال: " أسمع يا جدي،
سأمضي معك شططاً فى رحلة الإفتراضات المستحيلة فى عالم الخيال، وسأفترض
حصولك على موافقة الملك التى لازلت أُصر أنها من أعصى أنواع
المستحيلات. فإذا أستطعت ـ فعلاً ـ الحصول على هذه الموافقة، فأنك تكون
بذلك قد ملكت بين يديك مفتاح حل القضية الليبية، وتكون قد وفقت فى
تحقيق أمر فشلت أنا فى تحقيقه !. ومن ناحية أُخرى، فيما
يخص موقفي ومقدار دعمي لهذا العمل الوطني، فأنا ـ وكما تعلم ـ قد تجنست
بالمواطنة السعودية، وهجرت السياسة، لأن ظروفي ـ الإستثنائية ـ تمنعني
من ممارسة النشاطات السياسية، ولي فى هذا الصدد مصالح خاصة أحرص على
الحفاظ عليها. ومع ذلك، فأنا على أهبة الإستعداد لتقديم النصائح
وكافة المساعدات الممكنة والتى فى حدود قدراتي، فأنت أولاً ابن
خالي، ومثل أحد أبنائي؛ وثانياً فأنا لازلت ليبياً وتهمني مصلحة وطني.
ولكن لدى فى هذا الخصوص شرط واحد !! ".
فقلت له متسائلاً: " ما هو هذا الشرط ؟ ".
فقال مجيباً: " إن يكن الأمرُ فى طي الكتمان، وغاية فى السرية ! بمعنى
أن يتم لقائي معك بمفردك، دون إقحام الآخرين فى هذا الشأن. بحيث نجلس
بمفردنا كمثل جلستنا هذه ونتحدث فى الموضوع، أُسدى لك النصح السديد،
وأرتب لك المعونة المطلوبة ".
وقبلت بشرطه، وشكرته كثيراً على عرضه السخي، وقلت له بأنه لدى طلب آخر
يتعلق بنفس الشأن، ويقع ضمن حدود القدرات والإمكانيات الخاصة به
وبشخصيته، فسألني عن كنه هذا الطلب.
فقلت له: " أنني عند القيام بتأسيس الإتحاد الدستوري الليبي
سأكون فى أمس الحاجة لعلاقاتك الواسعة بالشخصيات السياسية النافذة
والمؤثرة فى الدول العربية، حيث سيكون من المفيد لبرنامج العمل المزمع
تنفيذه فى إطار برنامج الفكرة العامة للإتحاد الدستوري الليبي
أن يتم اللقاء بمثل هذه الشخصيات والتنسيق معها ".
فقال لي بكل ترحاب: " لن أدخر أي جهد فى هذا الخصوص إلاّ وسأبذله ".
وخرجت من منزل مصطفى بن حليم وقد امتلأت نفسي برضا وعوده
المعسولة.
** * **
ولم يكد يمض على ذلك اللقاء فترة قليلة، حتى كُنت ورفاقي قد حددنا موعد
للإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي. وكان الموعد المقرر
ـ للإعلان ـ هو السابع من أكتوبر سنة 1981م، الذى يتفق مع الذكرى
الثلاثين لإعلان الدستور الليبي ويتوافق مع حلول عيد الأضحى
المبارك، وهذا ما جعلنا ندمج بيان الإعلان عن تأسيس الإتحاد فى
بطاقة معايدة، تحمل فى داخلها صورة نادرة للملك إدريس السنوسي
كانت ـ حتى وقت قريب ـ تقبع على منضدة بهو الفيلا التى يقطنها وتزينه،
والتى وهبها لي كهدية لأستخدامها فى بيان الإعلان عن تأسيس الإتحاد
الدستوري الليبي.
وقد أرسلت لإبن
حليم
إحدى هذه الكروت، إسوة بالكثير من الشخصيات الليبية الأُخرى فى بلاد
المهجر المختلفة
[5].
وفى صباح يوم العيد ـ وكما جرت عليه العادة ـ اتصلت بإبن
حليم
لأهنئه بحلول هذه المناسبة الدينية المباركة. وما أن سمعت صوته على
الطرف الآخر من التليفون، حتى بادرته بتحية الصباح فقاطعني بفتور مفرط،
لم أتمكن ـ معه ـ من إكمال تحيتي له، ومن ثمة تهنئته بالعيد.
وقال لي بنبرة غاضبة: " لقد وصلني الكاغط متاعك !! ". وكان يعني
بهذه الكلمات المستهزئة، والتى نقلتها ـ هنا ـ على علاتها، كرت
المعايدة الذى كان يحمل فى طياته الإعلان عن تأسيس الإتحاد
الدستوري الليبي.
ظننت للوهلة الأولى أن الكلمات غير المنمقة التى سمعتها ـ منه ـ منذ
قليل، والتى لم يسبقها تحية أو سلام أو لطف أو ود هى حالة شاذة فى سلوك
هذا المخضرم الذى لا يخطىء لسانه مواضع الكلام فى أي حديث
إجتماعي يخوضه.
وظننت ـ خاطئاً ـ بأنه ربما يكون غاضباً مني، لأني أعلنت عن تأسيس
الإتحاد الدستوري الليبي بدون إشعاره بالأمر سلفاً. وقلت فى نفسي،
لعله يكون قد اعتراه غضب بسيط سيزول بمجرد أن أشرح له الموقف وأتلقى
منه العتاب.
ولم أتصور ـ فى حينه ـ أن الأمر لن يتخلله العتاب أو اللوم أو غيره،
وإن ذلك الفتور الذى أطلق بن حليم عنانه فى تلك المكالمة
المقتضبة لن ينتهى فى لحظتها، بل أنه سيمتد بتراكماته إلى خمس وعشرين
سنة أُخرى !!.
وكانت دهشتي عظيمة، عندما تدفقت عباراته بهستيرية لا تتناسب وشخصيته
المرسومة فى الذهن، والتى أصابتني كلماتها القاسية بصدمة لم أفق من
تداعياتها إلاّ بعد فترة زمنية طويلة، ومن ناحية أُخرى، لم أجد لها حتى
هذه اللحظة التفسير المنطقي الذى يبرر سبب نشوئها فى نفسه[6].
قال مصطفى بن حليم الذى كان لسان حال عباراته الجشة يتمنى من
صاحبها أن يحول كلماتها القاسية إلى لكمات مميته تقضى على محدثه فى
الطرف الآخر من خط التليفون: " أريد أن أطلب منك ألاّ تُكلمني مرة أخرى
! وأن لا تبعث لي بأية رسائل أو أوراق فى هذا الشأن أوغيره. وأريدك،
علاوة على ذلك، أن تنسي صلة القرابة التى تجمعنا سوياً، وتمزق من
مفكرتك ـ تلك ـ الصفحة التى تحمل عنواني ورقم تليفوني. فأنا من هذه
اللحظة فصاعدا لا أريد أن أعرفك أو أن أراك !! ".
فقلت له والحزن يفطر قلبي: " عيدك مبروك يا مصطفى بي ". ولم أزد
عن ذلك كلمة، ووضعت السماعة على جهازها.
وأنقطعت من يومها صلتي المباشرة به، وأعتقدت ـ حينئذٍ ـ أن كل أمرء منا
سيغدو لحال سبيله، وتحفظ ـ لنا ـ صلة الدم التى تجرى فى عروقنا بعضا من
الإحترام الذى يصون قدسية الحرمات الشخصية، هكذا تصورت، وهكذا تمنيت.
ولكن، ليس كل ما يتمناه المرء يناله ! فقد اختار مصطفى بن حليم
جادة لم تكن تليق بشخصه وسنه ومقامه، حيث اتخذنى، بدون أسباب ظاهرة أو
معلومة لي، عدواً له، وأطلق العنان ـ فى هذا الصدد ـ لحملة شعواء تهدف
إلى تشويه سمعتي على مدار المستويات الثلاث: المستوى الأسري، ومستوى
الأصدقاء والرفاق، والمستوى العام.
فقد وضع مسألة اغتيالى سياسياً وإجتماعياً هدفاً أساسياً نصب
عينيه، لا يألو فى سبيل بلوغه جهدا أو وسيلة، ويتبنى له فى هذا الخصوص
كافة الطرق المشروعة واللا مشروعة.
** * **
بدأ بن حليم يروج لشائعات بين أفراد المعارضة الذين تجمعني
ببعضهم صلات صداقة، وإجلال واحترام متبادل، مفادها إني قد اختلقت
موافقة الملك إدريس (رحمه الله)، وبإني مختل عقلياً، وابن عاق
خرجت عن رضا كبار العائلة الذين لم يكونوا موافقين على مسألة تأسيس
الإتحاد الدستوري الليبي !.
ثم أدار ـ بعد ذلك ـ دفة حملته الشعواء نحو والدي (رحمه الله)،
الذى كان يجله كثيراً ويثق فى أرائه السياسية، بإعتباره شخص مخضرم،
تقلد وتقلب فى المناصب السياسية المختلفة فى الدولة الليبية إبان العهد
الملكي لفترات طويلة، وله خبرة وباع فى عالم السياسة الذى تكتنفه
الألاعيب والدسائس والمؤامرات.
وسلط مصطفى بن حليم أخاه عبد الحميد (المحامي) الذى لم
تكن حظوته عند والدي بأقل من تلك التى نالها هو شخصياً؛ فقد كان
عبد الحميد يملك نواصي عذوبة الحديث والكلام، وكان يملك
إمكانيات فذة فى إدارة دفة الحوار مع الآخرين، وكانت أحاديثه ـ على
الدوام ـ محط إعجاب كل من عرفه أو حضر مجلسه.
وهكذا تناوب مصطفى بن حليم وأخوه عبد الحميد الأدوار لدى
والدي فى محاولة إقناعه بثنيي عن الإستمرار فى النهج الذى
اخترته سبيلاً لتحرير وطني. فكان كل منهما على حدة يوقع الوجس والخوف
فى قلب والدي من مخاطر توجهي غير المحمود، الذى كانا يصوران له
عاقبة نتائجه السيئة بأضرار جسيمة ستلحق بأفراد العائلة بأسرهم، وليس
على شخصي فحسب.
بمعنى،
إنهما كانا يصوران لوالدي قدرة وجبروت وشدة انتقام النظام
الحاكم فى ليبيا، الذى لن يقف ـ معه ـ عند حد الانتقام مني شخصياً،
سواء بالتصفية الجسدية أو الخطف أوغيره، بل أنه سوف يمتد هذاالانتقام
إلى أفراد الأسرة جميعهم، وذلك كعقاب لهم ولي على مناوئته والتفكير فى
العمل على تغييره.
وتجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى أن عبد الحميد بن حليم الذى كان
عضوا بارزاً فى الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا وأحد أقطابها
الأساسيين فى مصر، لم يكتف بترهيب والدي من مغبة انتقام
النظام من أفراد أسرته بجلهم فحسب، بل أنه حذره فى مجمل نصحه المستفيض
بأن مستقبل الحكم فى ليبيا ستكون حظوته وغلبته لجبهة الإنقاذ،
وهذا ما سيكون له عواقب وخيمة على موقف أسرته من قادة الحكم الجديد فى
المستقبل.
بمعنى آخر،
إن التوجه الذى يتبناه أولاده سيجلب لهم ـ ولأسرتهم ـ عداء سلطة الحكم
القادم (الجبهة)، وذلك لمنافستهم لها من خلال تأسيسهم
للإتحاد الدستوري الليبي، الذى يسعون عن طريقه إلى إعادة
الشرعية
الدستورية للبلاد !.
وكادت نصائح أخوان بن حليم لوالدي ـ فى هذا الشأن ـ تؤكد على
صحة المثل الشائع وتتطابق معه، والذى يقول نصه " تكرار الأفكار على
الأذن، أشد تأثيراً من قوة الأسحار ". ولكن كان لثقة والدي
الكبيرة فى سداد رأيي، عامل حاسم فى فشل محاولاتهما المتكررة.
ولا أنكر ـ هنا ـ أن بن حليم قد نجح على المستوى العام
فى إحداث بعض التأثير الذى عرقل من فعالية جهدي ونشاطي لأجل تحقيق
الأهداف التى من أجلها تأسس الإتحاد الدستوري الليبي، حيثا تخذ
بعض المعارف والأصدقاء مواقف سلبية فى هذا الخصوص، وذلك بواقع تأثير
الشائعات التى كان يطلقها ويبثها بن حليم بينهم.
إضافة لذلك، كان لرأي بن حليم السلبي ـ إزائي ـ عند سلطات بعض
الحكومات العربية الدور الأكبر فى إحجامها عن مد يد العون للإتحاد
الدستوري الليبي ومساعدته فى تحقيق الأهداف الوطنية المنشودة.
** * **
وبعيداً عن الوقوع تحت طائلة تكوين الرأي المتأثر بالعواطف والمواقف
الشخصية، وفى محاولة للتمسك بروح المنطق والعقل فى تدبير الأمور، فأننا
لو أمعنا النظر فيما حدث، لوجدنا عقولنا تُشير لنا بأنه مثلما فقد
الإتحاد الدستوري الليبي شخصية وطنية بارزة وفاعلة، كانت ستنهض به
لتحقيق الغاية المأمولة، وهى شخصية الأستاذ عبد الحميد البكوش،
فأنه ـ على نفس المنوال ـ قد فقد بالمثل شخصية الأستاذ مصطفى
بن حليم الذى ناصب هذا التوجه الوطني العداء غير المبرر، فى الوقت
الذى كانت مؤازرته ـ المفقودة ـ ستحدث الفرق المطلوب فى معادلة تحقيق
الشعب الليبي لحلمه المنشود.
يـتـبـع ..
محمد بن غلبون
11
أغسطس 2006
chairman@libyanconstitutionalunion.net
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
لقد كان مصطفى بن حليم فى بعض الأحيان يناديني ـ مازحاً ـ بـ
جدي، وذلك للشبه المتناهي إلى حد التطابق بيني وبين جدي محمد بن
غلبون (رحمه الله)، والذى لا أشترك معه فى الشبه الدقيق فحسب، بل
أشاركه ـ فوق ذلك ـ فى حمل نفس الأسم.
[2]
يعنى الملك، لقد كان بن حليم مثل الكثيرين من الليبيين،
لديه عقيدة فى كرامات النسل المبارك الذى ينحدر منه الملك إدريس
(رحمه الله).
[3]
لعل أصغر أبناء مصطفى بن حليم يقاربني فى السن، ومن ثم فأنا
بالنسبة له بمثابة أصغر أبنائه سناً. ومن هنا فإن بن حليم كان
يرمى من وراء قوله المشار إليه أعلاه، بإنه رغم جودة الفكرة التى
أطلعته عليها، ورغم صلاحها لتحقيق أهداف الشعب الليبي المنشودة، فأنها
ليست بجديدة عليه، وأنه لم يكن لينتظر مني وأنا الطفل الصغير أن أتدرج
فى النمو العمري حتى أبلغ مرحلة الرجولة لأتقدم إليه من أجل إبداء رأيه
فيها، وهو الذى تفتق ذهنه عنها منذ زمن بعيد !!.
[4]
المري: فى اللهجة الليبية القديمة تعنى النساء، والمعنى المقصود
فى كلام بن حليم واضح، أي أنه شعب من النساء، وليس الرجال.
[5]
أنظر للتفاصيل فى الجزء .الثالث
من هذه المقالة.
[6] بعد سنوات من حدوث هذا الموقف، نشرت جريدة
واشنطن بوست في عددها الصادر بتاريخ 12 يونية 1985
مقالة للكاتب
الأمريكي جاك أندرسون،
الذى عُرف عنه أنه يستقى معلوماته الصحفية من إدارة الحكومة الأمريكية
مباشرة، وقد تطرق فى مقالته لموقف مصطفى بن حليم السياسي إزاء
المعارضة الليبية. وفيم يلي ترجمة للجزء الذى يتعلق بموقف بن حليم
ـ المنوه عنه ـ فى داخل تلك المقالة: " لقد دعم
السعوديون الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا بما لا يقل عن سبعة
ملايين دولاراً أميريكياً. وتم فى هذا الإطار إستخدام مصطفى بن حليم
(رئيس وزراء ليبيا الأسبق) الذي يعمل ـ فى الوقت الحالي ـ كمستشار
للمملكة السعودية، ويقوم بدور الوساطة بين حكومتها وبين المقريف
".
لقد أرفقت أدناه نسخة من المقالة المشار إليها، لعل القارىء يجد فيها
تفسيراً لبعض التساؤلات المثارة.
|