بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء
الحادي عشر
[2]
الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي
محمد علي عريبي ..
ينحدر محمد علي عريبي ـ الذى يُعتبر أحد وجهاء قومه ـ من إحدى عائلات
البربر الكريمة البارزة. ويُعد أحد الشخصيات المعروفة على نطاق المنطقة
الغربية فى ليبيا، وأحد الأثرياء الناجحين
فى عالم التجارة والأعمال.
اتصل
بي عريبي بعد اطلاعه على كتيبات الاتحاد الدستوري الليبي، الذى أعجبته
فكرته وطرحه الوطني، لترتيب موعد للقائه فى المغرب التى كان يقطن
بعاصمتها الرباط بصفة دائمة، ويحوز على مكانة مرموقة فيها، ونفوذ بالغ
ـ لا يمكن للعين المدربة أن تخطىء رصده ـ فى داخل دوائرها السياسية.
وحين اللقاء ـ الذى تم فى سنة 1982م ـ سادت بيننا ألفة وود بالغ، حدثني
عريبي فى أثناءه عن علاقة الصداقة والتجارة التى ربطته بوالدي فى فترة
الاحتلال الإيطالي لليبيا، كما حدثني عن العلاقة الوطيدة التى ربطته
بخالي محمود دربي (رحمه الله) ـ أثناء إقامته بمدينة طرابلس ـ والتى
استمرت بينهما حتى غادر عريبي ليبيا.
** * **
لقد سُعدت فى قرارة نفسي بما عبر به عريبي من ود مفرط لشخصي ولكيان
الاتحاد الدستوري الليبي، والذى ترجمه فى إفصاح صريح لاستعداده بمؤازرة
وتأييد وتقديم عونه وخدماته للنشاطات التى يزمع الاتحاد الدستوري
الليبي خوضها من أجل تحقيق أهداف فكرته المنشودة.
وظننت فى ذات نفسي ـ فى حينه ـ بأنني قد كسبت أعلى جوائز يانصيب الحظ
فى معترك السعى لتأمين الدعم لنشاطات الاتحاد الدستوري الليبي !.
** * **
ورغم استيعاب محمد علي عريبي لمضمون الفكرة القائمة عليها أهداف
الاتحاد الدستوري الليبي، إلاَّ أنني قد وجدت من الضروري أن أنوه له عن
أهمية وضرورة تأييد البربر لأي عمل يرتكز قوامه على إعادة الشرعية
الدستورية للبلاد، المستمدة لروح قواها من دستور الأمة الذى نالت
بموجبه استقلالها.
وقد أوضحت لعريبي، فى هذا الإطار، بأن السبب الذى يحث البربر ـ بالذات
ـ لتسخير دعمهم ومناصرتهم لعودة الشرعية الدستورية لربوعها المعهودة فى
البلاد، يكمن فى نصوص وبنود دستور الأمة.
بمعنى أكثر وضوحاً، إن دستور الأمة الليبية الذى يفرض الواجب على
الجميع، وتفرض المصلحة العامة لأفراد الشعب الليبي بشتى طوائفه، التمسك
بوجوده والإصرار على إعادة تفعيله، قد راعى فى طيات نصوصه ـ بشدة دامغة
ـ على تمكين كافة مواطني الدولة الليبية من حقوقهم المدنية والسياسية
دون أدنى تفريق بينهم على أساس عرقي أو طائفي.
فقد نصت بنوده على كفالة حقوق وحريات كافة أفراد الشعب الليبي دون
تمييز بينهم على أساس العرق والدين، ومن ثمة ساوى بينهم ـ جميعاً ـ فى
الحقوق السياسية والاجتماعية والقانونية.
بمعنى، إن الدستور قد راعى حقوق الأقليات وحرياتهم فى ليبيا[1]،
حيث مكنهم من ممارسة كافة حقوقهم العرقية، وشعائرهم الدينية، وجعل من
نصوص القانون الواردة فى بنوده أداة الحمى لهم ولتقاليدهم المتوارثة،
وجعل منها ـ من ثمة ـ الكافل لحقهم فى ممارسة هذه الحقوق بمطلق الحرية
والأمان.
** * **
لقد كان لزاما علي أن أذكر لمحمد علي عريبي بأن الشرعية الدستورية فى
ليبيا التى أستقت مَضنُونُ روحها من دستور الأمة، كانت تقف إلى جانب
المواطن الليبي الذى ضمته أرض الوطن، بغض النظر عن خلفيته العرقية أو
الدينية، فلم يكن هناك تمييزا
ـ فى ظل أحكام نصوص الدستور ـ بين أحد من أبناء الشعب الليبي وسواه فى
الحقوق والواجبات.
وقد أشرت أيضاً لعريبي، فى هذا الغمار، بأنه من شدة حرص المؤسسين
للدولة الليبية ـ فى عشية الاستقلال ـ على مراعاة الاختلاف فى تركيبة
نسيج الشعب الليبي الكامنة فى انحدار بعض أطيافه من أجناس بشرية
مختلفة، إلى إنهم قرروا عدم إلحاق كلمة العربية بإسم الدولة الوليدة،
ولهذا رأينا كيف ولدت دولة ليبيا الجديدة تحت اسم المملكة الليبية
المتحدة.
ودواليك، بعد إلغاء نظام الولايات فى سنة 1963م تم تسميتها المملكة
الليبية، على الرغم من سيل الضغوط الجارفة التى مارسها البعض[2]
على إدارة حكم النظام الملكي لإلحاق كلمة العربية بإسم الدولة الليبية،
والتى رآها أصحاب القرار ـ آنذاك ـ إجحافاً بحق الأقليات الليبية التى
لا تنحدر فى سلالتها من الأصول العربية.
ورغم شدة اهتمام القائمين على إنشاء الدولة الليبية لضمان سواسية
المواطنين أمام سلطتها، ورغم حرصهم البالغ لتمكين الأقليات من حقوقهم
التى قد يعبث بها بعض المغرضين، إلاّ إننا نجد أنهم قد غفلوا ـ بحسن
نية ـ عن ظاهرة لم يكونوا يعرفون فى حينه أنها ستكون لها سلبياتها على
سير الحياة السياسة فى دولتهم الجديدة فيم بعد.
وهذه الظاهرة تتمثل فى القبلية وتركيبتها المحتوية على ازدواجية الولاء
الذى يميل فى غالب الأحيان لترجيح كفة القبيلة ـ فى ميزان الانتماء
والولاء ـ أكثر منه لكفة الدولة التى تضم هذه القبائل وكافة الطوائف
والأفراد الآخرين فى داخل المجتمع الليبي.
فقد كان لإساءة استخدام بعض أقطاب مجموعة من القبائل القليلة لنفوذهم
السياسي لصالح قبائلهم على حساب مصلحة الدولة ورعاياها الآخرين، نتائجه
السلبية الوخيمة التى أدت فى المنتهى إلى استغلاله من قبل حفنة من
العسكر كذريعة لتنفيذ انقلابهم المشئوم.
ولأن هذا الموضوع يحتاج لشرح أطول ومساحة أكبر، لا يمكن تغطيته فى سطور
قلائل، فقد رأيت أن أفرد له جانب فى نهاية هذا الجزء لتوضيحه وسبر غور
حيثياته، وذلك حتى لا يشتت ذهن القارىء بهذا الموضوع العارض والهام فى
ذات الوقت.
** * **
وعودة لموضوعنا، فقد أقر عريبي بتميز الدستور الليبي وصفاء عدله إزاء
تنظيم وتسيير أركان الحياة فى الدولة الليبية، وشهد بإنصاف واضعيه
الذين راعوا حقوق الأقليات، وهذا على العكس تماماً من حكام نظام
الانقلاب
العسكري.[3]
وهكذا، قال لي بأنه قد جند نفسه منذ تلك اللحظات كرسولٍ ـ عني ـ لأوساط
الأخوة البربر، وذلك من أجل حثهم على دعم وتأييد توجه الاتحاد الدستوري
الليبي حتى تتحقق أهدافه المأمولة.
وتوطدت مع الأيام ـ من ناحية أُخرى ـ أواصر الصداقة بيني وبين عريبي،
حيث أخذت لقاءاتنا الثنائية، وأحاديثنا الاجتماعية عبر المسرة صورة
روتينية لم أكن أرى فى الأفق ما يمكن أن يحجبها.
وجدّ فى الأمر حدث لم أتوقعه، لكنه لم يفاجأني، حيث لم تمض فترة طويلة
على صداقتي الناشئة بمحمد علي عريبي، حتى أبلغني برغبة بعض مسؤولي
حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فى الإلتقاء بي من أجل الحديث حول
كيان الاتحاد الدستوري الليبي وتوجهه ومستقبل نشاطه.
وفوجىء عريبي بموافقتي المباشرة على قبول مضمون رسالته التى بلغني بها،
وعدم ممانعتي على تنفيذها؛ فلم يكن يدرى عريبي بأن حساباتي ونظرتي
لآفاق العمل النضالي الوطني هى أكبر بكثير من قصرها على منطقة موضع
أقدامي.
بمعنى آخر، إن تحرير ليبيا من براثن حكم نظام الانقلاب العسكري، من
خلال خطة العمل التى تفرضها عملية الكفاح الشاقة لإعادة الشرعية
الدستورية لنصابها المعهود فى البلاد، يتطلب كسب الرأي العالمي على
مستوى حكومات الدول المؤثرة فى حركة نظام الفلك السياسي للعلاقات
الدولية.
وإذا سلمنا بأن أهمية المطلب السابق يضعه فى أعلى سلم أولويات خطة
العمل المرسومة لتحقيق الأهداف المنشودة، فكسب الولايات المتحدة
الأمريكية ـ أكبر قوة مؤثرة فى إطار حركة التوازن الدولي فى عالمنا
المعاصر ـ إلى جانب حق الشعب الليبي العادل فى إعادة شرعيته الدستورية
فى الحكم، يضعها ـ فى هذا المضمار ـ بأعلى سلم الدول التى يتم مناشدتها
لتحقيق هذا الغرض.
وقد خالني أن عريبي لم يكن يدرى بما يجول فى خاطري من خطة شاملة لكافة
أبعاد وأوجه البؤر الهامة والرئيسية فى إطار تحقيق أهداف فكرة الاتحاد
الدستوري الليبي، ولهذا فقد باغتته مفأجآة موافقتي الفورية على اللقاء
بممثلي الحكومة الأمريكية؛ فجل ظني أنه قد اعتقد فى ذات نفسه أنه سيخوض
نقاشا ـ عصيبا ـ أعد له من بليغ الكلام فى نفسه ما يكفى لمحاولة إقناعي
بمحاورة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
** * **
وهكذا، تم لقائي بممثلي الحكومة الأمريكية الذين رتب لي عريبي مسألة
اللقاء بهم. ولعدم إضاعة الوقت فى الخوض فيم جرى أثناء هذا اللقاءات
التى وصلت فى نهايتها إلى طريق مسدود، فقد سبق لي نشرها بكافة تفاصيلها
على صفحات جريدة الحياة اللندنية، وسوف يجد من يرغب فى الاطلاع عليها
الرابط الذى يحويها فى إحدى الحواشي المدونة أدناه.[4]
ومع شدة الأسف، قطع محمد علي عريبي كافة صلاته بي فور فشل محادثتي مع
ممثلي الحكومة الأمريكية. وحاولت ـ فى تلك الآونة ـ تكراراً ومراراً
الاتصال به، لكني كُنت أُجابه بتهربه، وتجنبه الحديث معي.
و بانقطاع تلك الصداقة القصيرة التى نشأت بيننا ـ والتى كُنت أعول على
صدقها وطهرها ـ ذهبت وعود عريبي بتأمين تأييد أهل البربر ومؤازرتهم
لتوجه الاتحاد الدستوري أدراج الرياح، وذهبت معها عهوده التى قطعها
بالمساهمة فى تمويل نشاطات الاتحاد الدستوري الليبي.
** * **
تأثير إساءة استخدام
النفوذ القبلي فى الحياة السياسية فى ليبيا ..
فيم يلي سأسرد فى شرح وافي لخلفية تأثير العَصَبِيَّةُ
القبلية على عقل الفرد المنتمى إليها وانعكاسه على مشاركته السياسية فى
داخل الدولة التى تضمه وقبيلته بكيانها.
وتقع ضرورة الشرح لهذه الخلفية من الأهمية التى لا تترك
ـ لي ـ معها المجال لتجاهلها أو غض الطرف عنها. وذلك لأنها ستمكن
القارىء من فهم الأسباب الكامنة وراء
اتخاذ بعض الشخصيات ـ التى أتى على ذكرها فى هذه
المقالة التوثيقية ـ لمواقفهم المشار إليها.
ومن هنا، سوف أقدم ـ فيم سيلي ـ شرحا
حول تركيبة التكوين القبلي والمبادىء التى تحكمه، والتى
يقع كاهل المسئولية عليها فى التأثير على علاقة أفراده بسلطة الدولة
التى ينتمون إليها. وسأدلل، كلما دعت الحاجة فى هذا السياق، بأمثلة من
واقع الأحداث، علها تدعم ـ بجهارتها ـ صحة التحليل الوارد فى هذا
الصدد.
** * **
القبيلة والمبادىء التى تحكمها ..
تعتبر القبيلة من أولى التجمعات المنظمة التى عرفها
التاريخ الإنساني قاطبة، فلم يعرف الإنسان على مر عصور حياته فوق سطح
كوكب الأرض
شكلا ـ اجتماعيا ـ من أشكال العَصَبِيَّةُ، يضمه وآخرين
من بني جنسه فى إطاره مثل الكيان القبلي.
والقبيلة ـ مثلها فى ذلك ـ مثل كافة الأشياء الأخرى في
هذه الدنيا قد نشأت تحت وطأة الحاح حاجة الإنسان لها، فصراع الإنسان مع
غرماءه من بني جنسه قد دعته إلى البحث عن تعضيد نفسه بالأقرب إليه من
بني جلدته ضد الآخرين.
ومن هنا، عرف التاريخ الإنساني أولى لبنات تجمعات أصحاب
صلات الدم الواحد من ذوي القربى في محاولة لخلق تجمعات مترابطة ذات
أهداف ومنافع مشتركة، تذود فيها مثل هذه الجماعات ذات القرابة الدموية
عن مصالحها إزاء الجماعات الأخرى المتنازعة معها على تلك المصالح،
فتكونت منذ ذلك التاريخ الضارب في قدمه العشائر ومن ثم القبائل لتصبح
بعد ذلك نواة وركيزة أساسية في البنية القومية للمجتمعات البشرية ـ
المتنوعة ـ الحديثة.
ولم تسثن أي منطقة من بقاع الأرض المختلفة عبر التاريخ
الإنساني من وجود التنظيم القبلي فيها، فقد عرفت كافة المجتمعات
الإنسانية عبر تاريخها المتواتر التكوين القبلي وانتهجت أساليبه
وسلوكياته، وذلك رضوخاً لحاجة الإنسان فيها لاقتناء
القوة من أجل الحفاظ على مصالحه المشتركة مع أبناء
رابطته الدموية.
غير انه في الأزمنة الحديثة من القرون الآخيرة للمسيرة
البشرية، وتحت نير التطور الإنساني بدأ التكوين القبلي في كثير من
المجتمعات المختلفة من مناطق العالم يتلاشى لحساب التحول إلى كيانات
المجتمعات المدنية أو الحضرية التى ظلتها الدولة تحت سقف أقبية
قوانينها الوضعية.
وقد تحول ـ فى هذا الصدد ـ المجتمع القبلي إلى مجتمع
مدني أو حضري نتيجة التطور التاريخي للبشرية عبر العصور، والذى فرضته
مصلحة الإنسان الساعية إلى تحسين وضعه المعيشي فى إطار جديد ترعاه
الدولة الشاملة لكافة أفراد المجتمع بشتى أعراقهم المختلفة، تحت مظلة
من القوانين التى تنظم علاقات ـ هؤلاء ـ الأفراد بعضهم بالبعض الآخر،
وتحضنهم برعايتها دون تمييز بينهم أو تفريق.
إلا إنه ـ من ناحية أُخرى ـ لا زالت بعض التكوينات
القبلية في بضعة من المجتمعات الإنسانية، وعلى وجه الخصوص في بعض
مجتمعات الدول العربية، تحتفظ بشكلها البدائي الذى فطرت عليه منذ ألآف
السنين، حيث نجدها لم تندمج أو تحقق الذوبان فى بوتقة الدولة الحاضنة
لها فى الإطار العام للمجتمع بأسره؛ فظلت ـ فى هذا الصدد ـ تمتثل
لغريزة مصالحها الضيقة المحصورة فى نطاق أفراد قبيلتها أكثر من
انتمائها وولائها للمصلحة العامة لمجتمع الدولة ـ المعنية ـ ككل.
ولا ريب فى إنه هناك مبادىء أو نواميس تحكم تركيبة
تكوين البنية القبلية فى شكلها البدائي، وتتحكم من ثمة فى منهجها
السلوكي، والتى يمكن تلخيصها فى النقاط التالية:
-
مصلحة الفرد في
القبيلة هى مصلحة للقبيلة بأكملها طالما كانت تتطابق مع مصالح بقية
الأفراد فى داخل منظومة القبيلة ذاتها، ولا تتعارض معها.
-
مصلحة القبيلة تنصب
وتتركز في السعى إلى تحقيق مصالح أفرادها التى هى إحدى أهم الغايات
المنشودة.
-
إن حماية مصالح القبيلة،
والذود عن حرماتها وممتلكاتها، هى أولى الغايات المنشودة في العقلية
التى تحرك الوجدان القبلي.
-
أن الطاعة العمياء
والانصياع لأوامر شيوخ ورؤساء القبائل من أهم السمات التى يتحلى بها كل
فرد في القبيلة والتى تعد يقين راسخ في وجدانه لا يحيد عنه ولو بقيد
أنملة.
** * **
وعندما نترجم هذه المبادئ فى أرض الواقع عن طريق ـ
محاولة ـ تطبيقها فى داخل إطار كيان الدولة الشامل، فإنه من المحتم أن
تصطدم إحداها أو عمومها ـ عند نقطة ما ـ بقوانين الدولة المنظمة لعلاقة
الأفراد فى داخل كيانها.
والسبب ـ ببساطة ـ يكمن فى أنه لم يتم تسييس القبيلة
لكى توحد أهدافها في إطار مصالح وأهداف الدولة التى تضمها وبقية أفراد
وفئات المجتمع الآخرى المختلفة، فى تناغم وتناسق وإتساق يحقق المصلحة
العامة لكافة أفراد المجتمع بمختلف أفراده وعشائره وقبائله وأقلياته
الدينية والعرقية، بحيث يعمل الجميع لتحقيق مصلحة الدولة التى ينتمون
إليها جميعاً، وليس لتحقيق مصالح كياناتهم القبلية والعرقية على حساب
المصلحة الأساسية لمواطني الدولة بأسرها.
وهذا هو الخطأ الكبير الذى لم ينتبه لخطورته أصحاب
الوعي السياسي فى إدارة نظام الحكم الملكي، حيث تركوا الحبل على الغارب
لسيطرة الكيان القبلي على ـ بعض أوجه ـ القرار السياسي فى الدولة
الناشئة، دون التفكير فى الإقدام على إجراء محاولة جادة لتسييس الكيان
القبلي وعصرنته حتى يتمكن من إداء وظيفته بصورة طبيعية فى داخل كيان
الدولة، وذلك عن طريق مساهمة أفراده ومشاركتهم في عملية صنع القرار من
خلال القنوات السياسية المتاحة لجميع أفراد المجتمع بأسره.
وقد أدت فداحة هذا الخطأ ـ الموروث ـ إلى تعاظم وتفاقم
حدة الخلل فى علاقة الفرد بسلطة دولته من ناحية، وجعل ـ من ناحية أخرى
ـ من بعض القبائل النافذة مراكزا للقوة تتحدى سلطة الدولة وتقرعها عند
الاصطدام بها، ولا ترتدع ـ من ثمة ـ لسلطان قوانينها. ولعلنا نجد ذلك
واضحاً من خلال المثالين التاليين:
-
إخراج إحدى القبائل ـ عنوة ـ لأحد أفرادها من قاعة
المحكمة، التى كان يمثل أمامها بتهمة إصدار أوامره لقوات الأمن
باستخدام الأعيرة النارية عند التصدى لمظاهرات الطلاب فى يناير 1963م،
مما أدى إلى سقوط بعض الضحايا.
-
توجه جمع غفير من أفراد بعض القبائل للديوان الملكي،
والاعتصام أمامه لمنع الملك من تقديم إستقالته، وإجباره على سحب
إقتراحه بتغيير نظام الحكم الملكي إلى نظام حكم جمهوري فى حقبة
الستينات.
** * **
وهكذا، وبنظرة خاطفة، يمكن تعليق معظم أخطاء الحكم
الملكي فى ليبيا على مشجب السيطرة القبلية على مقاليد الحكم، وهذا ما
يحمل ـ فى جزء منه ـ لجانب من الصواب، لكنه فى إطار المنظور الكامل
للحقيقة التامة، تُعد السيطرة القبلية على مقاليد الحكم فى ليبيا أبان
العهد الملكي نتيجة لسبب آخر يقف ورائها !.
وهذا السبب، الذى تجاهله الجميع، ومن بينهم
المحللون وأصحاب الرؤى الواعية و المتابعون والمهتمون بالشأن الليبي،
تنحصر طامته فى تركيبة القبيلة البدائي وما يحمله فى متنه من مبادىء لا
تتفق وروح العصر الذى نشأ فى ظله كيان الدولة الحديثة.
بمعنى آخر، إن تلك المبادىء القائمة على العَصَبِيَّةُ،
هى صاحبة المسئولية الحقيقية فى امتطاء بعض القبائل لصهوة العنجهية
المتخلفة، من خلال رفضها الانصياع لسلطة الدولة وتحدى قراراتها المنظمة
لمسار علاقات أفراد الشعب الذى تظله بكيانها، والذى تُعد القبيلة ـ فى
هذا السياق ـ تمثل إحدى شرائحه.
** * **
ومن هنا، فإن تسييس الكيان القبلي عن طريق التوعية التى
تغرس فى عقول أفراده مفهوم الولاء والانتماء للوطن ككل لا يتجزأ ـ كان ـ ضرورة
لا بديل لها فى داخل مجتمع لازالت بعض شرائحه يُهيمن على تفكيرها
عَصَبِيَّةُ تليق بسكان قرون الألفية الأولى للتاريخ البشري المعروف.
حيث يُعقد الأمل ـ فى هذا الإطار ـ على أن تحقق عملية
تسييس وتوعية أفراد الكيان القبلي غرضها المنشود فى القضاء على
شوفانيتهم التى يؤثرون معها مصالح قبائلهم على حساب مصلحة بقية أفراد
وشرائح المجتمع الآخرى. كما يأمل منها ـ فى هذا الغمار ـ أن تعمق فى
نفوسهم مفهوم
الانتماء الصرف للوطن بذاته، وليس للقبيلة أو العشيرة
أو الأقلية العرقية. فيتحقق ـ نتيجة لذلك ـ سيادة وسيطرة الدولة
المعنية على كافة أركانها، ويتساوى من ثمة مواطنيها أمام سلطتها ونظام
حكمها، بغض النظر ـ فى هذا الشأن ـ عن اختلاف مشاربهم القبلية أو
العرقية.
ولكن الواقع ـ كما نعلمه ـ قد عرف إبان فترة العهد
الملكي، هيمنة العَصَبِيَّةُ القبلية على بعض أوجه صنع القرار السياسي،
الذى تكون ـ من جرائه ـ خلل مزمن فى طبيعة العلاقة بين الفرد وسلطة
دولته، وأدت نتائجه السيئة إلى شل قدرة الدولة على فرض هيبتها لتنفيذ
القوانين المنظمة لمسارها فى داخل كيانها الشامل.
وقد استغل نظام الحكم غير الشرعي الذى وصل إلى سدة
الحكم فى ليبيا عن طريق الانقلاب العسكري فى سبتمبر 1969م ـ نفس هذه
العَصَبِيَّةُ ـ لأغراضه الخبيثة المبيتة بعد ذلك.
ومن ناحية أُخرى، فإن القبيلة تُعد كيانا له اعتباره
وأهميته في النسيج الاجتماعي لليبيا، وله ـ أيضاً ـ غلبته على تركيبتها
السكانية. ومن هنا، فإنه من الجدير بالأهمية أن يتم السمو به، وإثراء
تكوينه الأصيل، من خلال توعية وتسييس أفراده لتقديم الانتماء والولاء
للوطن على الانتماء والولاء لقبائلهم، فهذه هى الوسيلة النموذجية
لإزالة ازدواجية
الولاء و الانتماء التى يعاني منها الكثير من أفراد
الكيان القبلي فى هذا الخصوص.
** * **
ولعل العَصَبِيَّةُ القبلية هى التى حركت ـ بنعرتها
الحادة ـ وجدان الحاج محمد السيفاط، ولم تمل عليه عدم مؤازرة فكرة
الاتحاد الدستوري الليبي وتأييدها فحسب، بل إنها دفعته
لمعاداتها ومحاربتها، وذلك لكونها قد صدرت عن أحد شخصيات الحضر، ولم
تكن فى أساسها منطلقة مبادرتها من أتون الكيان القبلي، الذى
اضطلع بمهمة الجهاد فى فترة الاحتلال الأجنبي للبلاد،
وساس حكم البلاد من خلال التفافه حول شخص الملك فى فترة ما بعد
الاستقلال.
وحتى يتم إضفاء صحة على هذا الرأي، والبرهنة على صدقه،
سأقوم ـ فيم سيأتي ـ بسرد بعض الوقائع والأحداث فى هذا الشأن.
** * **
لقد نمى إلى علم السيد حسين مازق (رحمه الله) ما كان
الحاج محمد السيفاط يقوم به من نشاط مناوىء لتوجه
الاتحاد الدستوري الليبي؛ فوقع فى حيرة من نفسه، لأنه كان
يعلم بأن توجه
الاتحاد
الدستوري الليبي يقوم فى أساسه على المناداة بإعادة الشرعية الدستورية
إلى البلاد من خلال الالتفاف حول ممثلها الملك إدريس السنوسي.
وترجع أسباب حيرة حسين مازق فى هذا الشأن، إلى إن
قبيلته (البراعصة) ـ التى يُعد الحاج محمد السيفاط أحد أبرز شخصياتها ـ
كانت فى يومٍ إحدى نواصي وأركان نظام حكم الملك إدريس السنوسي البارزة.
فلا يعقل ـ والحال كذلك ـ أن يقوم السيفاط وهو أحد أعمدة هذه القبيلة
بمناوئة كيان
الاتحاد
الدستوري الليبي الذى تقوم ركائز
فكرته على إعادة الشرعية الدستورية وتطالب جموع الليبيين الالتفاف حول
الملك إدريس !.
وهكذا أرسل السيد حسين مازق رسولاً من طرفه إلى الحاج محمد السيفاط
محملاً بسؤال مركب يحتوى فى متنه على شقين، اجتهد صاحبه على تحديد
ضالته المنشودة ـ من وراءه ـ فى بحثه عن إجابة شافية تجلى له غموض هذا
المشهد المحير، وتميط اللثام عن الغموض الذى يحيط به.
وكان السؤال ـ المعنى ـ يسعى فى شقه الأول إلى معرفة موقف الحاج محمد
السيفاط المريب فى هذا الإطار، بوجه عام ؟.
ويطرح ـ صاحب السؤال ـ فى شقه الثاني تساؤلين
آخرين ، يحملان فى طياتهما حدسين سيتبين من خلالهما ـ إذا صدقا فى
فراستهما ـ أسباب العلة التى دفعت بالسيفاط لتبنى موقفه المعادى لتوجه
الاتحاد
الدستوري الليبي وتشنيعه على مؤسِسِهِ محمد بن غلبون.
ويفيد التخمين أو الحدس الأول بأن السيفاط ـ ربما ـ اتخذ موقفه المشار
إليه بسبب عدم اقتناعه بأن الملك إدريس لم يبارك قيام
الاتحاد
الدستوري الليبي كما أدعى مؤسِسِه محمد بن غلبون !.
ويفيد التخمين الثاني بأن مؤسس
الاتحاد
الدستوري الليبي لم يتبع البروتوكول اللائق عند اتصاله بالحاج محمد
السيفاط لإعلامه بتأسيس كيانه المنوه عنه، فلم يراع مكانة السيفاط
المرموقة ومقامه الموقر، أو إنه أساء للسيفاط بعمل فج لا يتفق والسلوك
السوى، وهذا ما أدى بدوره إلى ترك مرارة فى نفس السيفاط، دفعته بغبنها
إلى تبنى موقفه المشار إليه إزاء
الاتحاد
الدستوري الليبي ومُؤسِسِه محمد بن غلبون !.
ومن هنا، إذا كانت المسألة برمتها محددة بالطرح الذى يحمله التخمين
الأول، والمتمثل فى إدعاء بن غلبون بمباركة الملك لنشاط
الاتحاد
الدستوري الليبي، وثبت ذلك بالدليل والبرهان القاطع، فإنه فى هذه
الحالة لا تعزير للسيفاط ولا ملامة عليه.
إما إذا تحددت المسألة فى إطار من التخمين الثاني، الذى يآول أمره إلى
عدم تبجيل بن غلبون لمكانة السيفاط عند إعلامه بتأسيس كيان الاتحاد
الدستوري الليبي، أو إساءته إليه بطريقة ما، فأنه فى هذه الحالة يمكن
تعزير بن غلبون عن طريق أهله الذين تربطهم علاقة قوية بصاحب الأسئلة
(حسين مازق)، فيعتذر ـ من ثمة ـ للسيفاط عن الإساءة التى لحقت به منه.
** * **
ونقل مرسول حسين مازق إليه إجابات سؤاله المركب، من قبل الحاج محمد
السيفاط، والتى أفادت بأن بن غلبون لم يسيء إليه البتة، بل على العكس
من ذلك، كان كيس ومراعى لكافة قواعد السلوك القويم فى التعامل معه. ومن
ناحية أخرى، فإن
الملك بالفعل قد بارك وشجع قيام وتأسيس
الاتحاد
الدستوري الليبي.
وإن السيفاط قد اتخذ موقفه المعادى من
الاتحاد الدستوري الليبي ومؤسسه محمد بن
غلبون، لأنه كره أن يقوم أحد أبناء الحضر بخطوة لا يكمن فى لدنها الحل
للقضية الليبية الشائكة، بل أنها ستلصق العار برجال القبائل الذين
حكموا بأسم الملك إدريس السنوسي إبان فترة العهد الملكي، وأداروا الآن
ظهورهم لمثل هذا التوجه المحمود، ناهيك عن الشعور بالمرارة التى ـ قد ـ
تعتمل بها أنفسهم لكونهم فشلوا فى المبادرة بهذا التوجه النير، بعد أن
خانتهم أذهانهم فى التفتق بمثله قبل أن يسبقهم عليه محمد بن غلبون.
ومن هنا، فإن المصلحة تقتضي أن يتم محاربة كيان
الاتحاد
الدستوري الليبي، والعمل على إفشاله حتى لا يكون وصمة بائنة ـ وشهادة ـ
على تقصير رجال هذه القبائل فى هذا الخصوص. ومن ناحية أُخرى، لا يوجد
ما يمنع أن يقوم أحدهم فى المستقبل بإعادة طرح هذا التوجه المنوه عنه.
وللقارىء أن يرى مدى تأثير العَصَبِيَّةُ القبلية ـ التى قدمت لها
أعلاه ـ فى إيثار مصلحة القبيلة على مصلحة الوطن.
** * **
وبدت للسيد حسين مازق الحقيقة واضحة بوجهها الكريه، ولام السيفاط على
موقفه غير العادل فى هذا الغمار، وطلب منه أن يكف عن مناوئة نشاط
الاتحاد
الدستوري الليبي ومؤسسه محمد بن غلبون، إذا كانت نفسه غير قادرة على
الانضمام إليه ومؤازرته ودعمه.
وطلب حسين مازق من رسوله أن يُبلغني بكافة تفاصيل هذه الواقعة، التى
نقلتها للقراء ـ هنا ـ بحذافيرها، وذلك من أجل التدليل على تأثير
العَصَبِيَّةُ القبلية المقيتة فى مجرى الأحداث، والتى كثيراً ما تنجح
فى الوصول بها فى مواقف معينة إلى أوضاع غير حميدة.
كما كلف السيد حسين مازق رسوله
بأن ينقل لي عنه كلمة واحدة وهي : "سامحنا".
** * **
وفى الختام، أجد نفسي مضطراً للإستعانة برواية أحد رجال المعارضة
الوطنية بالخارج حول حقيقة موقف السيفاط تجاه
الاتحاد
الدستوري الليبي ومؤسسه محمد بن غلبون، الذى لم يواربه على الكثير من
مسامريه، وذلك حتى أُضفى على حديثي حول هذه الواقعة ـ المذكورة أعلاه ـ
حقها من المصداقية التامة التى حرصت طوال حياتي على أن تكون إحدى سمات
سلوكي فى تعاملي مع الآخرين.
روى لي الأستاذ صالح جعودة ـ فى حضور محمود شمام ومفتاح الطيار ومحمد
دربي ـ بأنه عندما سأل السيفاط فى مرة عن سبب عداءه ومحاربته لمحمد بن
غلبون، وهل السبب من وراء هذا العداء ـ لابن
غلبون ـ مرجعه إلى توجهه السياسي الذى بلوره فى تأسيسه
للاتحاد
الدستوري الليبي ؟ أم إن سبب العداء يعود لكراهية شخصية جناها بن غلبون
بسبب موقف ما خرج فيه عن أصول اللياقة السلوكية معك، مما أثار حفيظتك
تجاهه ؟.
وأجابه السيفاط قائلاً:
"بأن
فكرة توجه
الاتحاد
الدستوري الليبي التى تبناها بن غلبون لا غبار عليها.
أما
معاملته لي فقد كانت على أفضل ما يرام، فلم يخطىء ـ فى يومٍ ـ فى حقي
البتة
،
ولو كانت
الفكرة
قد أنبثقت عن ذهن أحد كبار الشخصيات الليبية، أو من أحد أبناء العائلات
المعروفة كعائلتكم، لما أعرت الأمر أهمية، ولكن أن تأتي هذه الفكرة من
بن غلبون، فهذه ما نْحَمَلْهَش".
يـتـبـع ..
محمد بن غلبون
12 نوفمبر 2006
chairman@libyanconstitutionalunion.net
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
توجد فى ليبيا أقليات عدة، فعلاوة على البربر ـ الذين يعدون من أقدم
الأجناس التى عاشت على أرض ليبيا ـ هناك الكريت (الكريتلية)، واليهود
الذين رحلوا أثناء حرب 1967م.
[2]
لعل أحد أبرز هذه الضغوطات التى تلقاها القائمون على إدارة حكم ليبيا ـ
فى غضون ذلك الوقت ـ تلك التى كان يمارسها إعلام عبد الناصر المشبع حتى
الثمالة بإحياء القومية العربية، مما كان له تأثيره الساحر على شباب
ليبيا المتعطشة ألبابهم بحماس وقاد لإعادة قيام هذه القومية التى شهد ـ
لهم ـ التاريخ المعاصر على انتكاستها فى معترك الصراع ضد القوميات
الفرنجية.
[3]
من باب المثال وليس الحصر ـ فى هذا الصدد ـ يجدر تذكير القارىء بإحدى
ممارسات نظام الانقلاب العسكري القمعية ضد البربر الليبيين ، المجحفة
بحقوقهم الشرعية كمواطنين، وذلك عندما قام بمصادرة حقهم فى إطلاق أسماء
بربرية على أبنائهم، وفرض عليهم الأسماء العربية !.
[4]
الرابط الذى توجد به المقالة المنشورة بصحيفة الحياة:
http://www.daralhayat.com/opinion/08-2005/Item-20050828-fe179261-c0a8-10ed-0038-fb5993411b13/story.html
|