بسم
الله الرحمن الرحيم
الجزء
الحادي والعشرون
[2]
الإعلان
عن تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي
الحركة الوطنية الليبية ..
أ.
تمهيد:
سوف يتم الحديث ـ فى هذا الجزء ـ عن موقف تنظيم الحركة الوطنية
الليبية الذى ترتكز أنشطته، وتدور أهدافه، وينتمى أعضائه لفكر
البعث، المستقى لمنهجه من نموذج التطبيق العراقي إِبان فترة
حكم صدام حسين.
وقد تم فى الجزء السابق ـ من هذه المقالة التوثيقية ـ تقديم نبذة
توضيحية عن شكل الصراع السياسي
(التنافسي)
الذى يتخلل مواقف
معظم
كيانات الأحزاب والتنظيمات السياسية فى العالم بصفة عامة، مع التركيز على
الحالة الليبية[1]؛
وذلك من أجل تقريب الفهم لتركيبة العلاقة القائمة بين تنظيمات وأحزاب
المعارضة الليبية فى خضم نضالها ضد نظام الحكم الفاسد المسيطر على مقاليد
السلطة فى ليبيا.
ويهمنا من النبذة المذكورة، فى هذا المقام، ما تم طرحه وتحليله
حول وضع التنظيمات والأحزاب القائمة أهدافها على مناهج الرؤى
الإيديولوجية، التى يقع تنظيم الحركة الوطنية الليبية (البعثي)
تحت كادرها.
وكما رآينا، إن تحليل الطرح المدرج فى النبذة المشار
إليها، قد توصل إلى (نتيجة) يتلخص مفادها فى أن الأحزاب
والتنظيمات
القائمة أفكارها وأهدافها على مناهج وبرامج إيديولوجية ـ كانت
الدافع الأول من وراء تكوينها ـ مثل تنظيم حزب البعث، الذى ينضوى
تنظيم الحركة الوطنية الليبية تحت لواء فكره العقائدي؛ هى فى
حقيقة الأمر، تنظيمات تسعى للتربع فوق سدة الحكم فى أي بلد يتم تأسيس
نواتها فيه.
وهذا ما يجعلها ـ بالتالى ـ تُسخر كافة إمكانياتها وطاقات أعضاءها
لتحقيق هذا الهدف الذى يعلو، من وجهة نظرها، على مختلف الإعتبارات
الآخرى، ولا يعلى عليه؛ وذلك، بصرف النظر عن إستساغة وقبول أفراد مجتمعها
لمنهج فكرها الذى تتبناه ـ وتسعى لفرضه عليهم ـ من عدمه.
ومن هنا، فإنه لا يمكن تصنيف مثل هذه التنظيمات، ككيانات معارضة
لأنظمة الحكم المسيطرة على السلطة فى بلادها بالقوة، والتى لا تتبنى منهج
النموذج الديمقراطي، ولا تقر قوانينها أو دساتيرها مبدأ تداول السلطة ـ
من خلال حرية الإختيار التى تُعبر عنها الإرادة الحرة لأفراد مجتمعاتها ـ
وذلك بسبب كونها صاحبة فكر عقائدي، أو منهج خاص، تسعى لفرضه كأداة
للحكم، وليست تنظيمات يقع جل همها فى معارضة نظام الحكم (المستبد)
المهيمن على السلطة فى أوطانها.
وهذا ـ بالتالى ـ ما يجعل من أمر معارضتها السياسية فى
داخل المجتمعات التى تُسيطر عليها أنظمة لا تُقر ولا تُطبق النموذج
الديمقراطي ظاهرة غير صحية، وغير صحيحة، لأنها لا ترتكز أسسها على
حرص وحس وطني بالمصلحة العامة، بل على رؤية عقائدية يتجسد قوامها
فى هدف الوصول للسلطة، وإحكام قبضتها عليها، وتطبيق برنامج حزبها الذى
يلتف حول منهجه أعضائها؛ هذا، بغض النظر عما تقتضيه المصلحة العامة
(الحقيقية) لمجتمعاتها.
بمعنى آخر، ووفقاً للتحليل السابق، فإنه يمكن إيجاد مبرر لظهور مثل هذه
التنظيمات فى البلاد التى تطبق وتنتهج الدرب الديمقراطي، والتى يبيح
الصراع التنافسي بين أحزابها ـ من خلال الأنشطة االدعائية الإنتخابية
لبرامجها ـ طرح أفكارها وعقائدها للناخبين، فإذا أقتنعوا بها، منحوها
أصواتهم لمباشرة الحكم، وتطبيق أفكارها التى ترتكز على أسسها كيانات
تنظيماتها وأحزابها.
ومن غير ذلك، فإن مثل هذه
التنظيمات ـ التى تم تأسيسها على ركائز أفكار إيديولوجية تسعى إلى فرضها
على الحكم عند وصولها للسلطة ـ تُعد فاقدة لمبرر وجودها وشرعيتها خارج
نطاق الدول التى تطبق النهج الديمقراطي.[2]
**
* **
ب.
النشأة:
لقد تم الإعلان عن تأسيس الحركة الوطنية الليبية فى شهر ديسمبر
1980م، متخذة من العراق مقراً ينطلق منه نشاطها الحزبي؛ وليستقر
معظم أعضائها فى عاصمته بغداد، وزاولوا أنشطة برنامج تنظيمهم
منها، بدعم ومؤازرة تامة من نظام الحكم العراقي.
وقد جاء تأسيس هذا التنظيم (البعثي) على أثر التصفيات الجسدية التى
مارسها نظام الحكم الفاسد فى ليبيا ضد شخصيات من المعارضة الليبية، التى
كان من بين ضحاياها بعض الرموز الوطنية الصادقة، من مؤسسي تيار الفكر
البعثي فى ليبيا، الذين كان من بينهم (فى داخل ليبيا) الشهداء:
1.
محمد فرج حمي.
2.
عامر الدغيس.
3.
محمود بنون.
4.
حسين أحمد الصغير.
وكان من بين أبرارها (فى الخارج) الشهيد أحمد عبدالسلام بورقيعة،
الذى أغتالته الأيدى الآثمة ـ ومثلت بجثمانه الكريم ـ فى مدينة
مانشستر البريطانية خلال شهر نوفمبر 1980م. كما تم فى مرحلة لاحقة
(شهر مايو 1984م) قتل الشهيد مصطفى النويري فى داخل ليبيا
على أيدى زبانية النظام الفاسد.
**
* **
ج.
محور النشاط:
كان جل نشاط أعضاء تنظيم الحركة الوطنية الليبية يدور حول السعى
الحثيث لنشر فكر حزب البعث بين أفراد التجمعات الليبية بالمهجر،
ومحاولة ضم عناصر جديدة لكادر تنظيمهم، بواجهة تعكس معارضتهم لنظام
الإنقلاب العسكري فى ليبيا؛ وكانوا يتلقون ـ لهذا الغرض ـ الدعم الكامل
من نظام صدام حسين بالعراق.
وقد أحتوت أدوات نشاط تنظيمهم على إذاعة مسموعة، كانت تبث برامجها
وخطابها الموجه للشعب الليبي ـ عبر الأثير ـ من الأراضي العراقية؛ إلى
جانب مجلة صوت الطليعة، التى كانت توزع مع بعض الدوريات والنشرات
الأخبارية التالية الذكر، فى معظم عواصم الدول العربية والأوروبية، وبعض
الولايات الأمريكية:
1.
الرقيب الليبي.
2.
المواطن الليبي.
3.
المنبر الليبي.
4.
المغترب الليبي.
علاوة على ذلك، فقد أصدر تنظيم الحركة الوطنية الليبية العديد من
الكتيبات، التى حملت آراء أعضائه وتوجهاتهم الفكرية. كما سجل رصيد
إجتهاد عناصره عملاً مشهوداً فى النشاطين التاليين:
·
لجوئهم لفكرة إستخدام الملصقات التى تُعبر عن فكر وتوجهات تنظيمهم.
·
إصدارهم لمجلة صوتية شهرية، كان يتم تسجيل مواضيعها ـ الموجهة ـ على
أشرطة (كاسيت)، تحت أسم صوت الطليعة المسموع.
وقد تميز معظم أعضاء تنظيم الحركة الوطنية الليبية بتجانسهم
الفكري والثقافي، حيث كان معظمهم من حملة الشهادات الجامعية، التى
رجح
ميزانها التخصصي كفة المنتمين للمجال القانوني. وكانت تجمعهم ـ إلى جانب
ذلك ـ مزية إنحدارهم من مناطق وجهات ليبية مختلفة؛ إضافة إلى أن بعضهم ـ
كانوا ـ يعدون من ضمن الشخصيات المعروفة والمرموقة فى داخل المجتمع
الليبي.
ويُعتبر تنظيم الحركة الوطنية الليبية ـ فى سياق آخر ـ من أكبر
وأقوى تنظيمات المعارضة الليبية، بعد الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا؛
ويرجع السبب فى ذلك إلى الدعم والعضد والمؤازرة المكثفة التى كان يتلقاها
كيان هذا التنظيم من نظام الحكم العراقي خلال فترة السنوات الأولى التى
أعقبت تأسيسه (بداية عقد الثمانينات من القرن المنصرم).
ولم يكن (هذا) الدعم العراقي الضخم مقتصراً فى حده على تنظيم
الحركة الوطنية الليبية، بل نالت ـ فى هذا المضمار ـ بضعة (أُخرى) من
تنظيمات المعارضة الليبية نصيبها الوافر منه، لكن نصيب الأسد من المؤازرة
المديدة، والمساندة الوثيقة، والعون الودود، قد ذهب لتنظيم الجبهة
الوطنية لإنقاذ ليبيا.
وقد كان السبب فى دعم ومعاونة نظام صدام حسين، لكثير من فصائل وتنظيمات
المعارضة الليبية، يرجع لخلافه السياسي مع نظام الحكم الفاسد فى ليبيا؛
ومن هنا، فقد أتبع النظام العراقي سياسة مساندة بعض قوى المعارضة الليبية
كإستراتيجية تهدف إلى إطاحة نظام غريمه فى ليبيا. ومن الجدير بالذكر فى
هذا السياق، إن الإتحاد الدستوري الليبي لم يتلق، فى يومٍ، أي نوع من
العون أو الدعم من النظام العراقي فى هذا الخصوص.
**
* **
د.
موقف تنظيم الحركة الوطنية الليبية:
لإستخلاص موقف كيان تنظيم الحركة الوطنية الليبية من
الإتحاد الدستوري الليبي، لابد لنا من التطرق فى حديثنا ـ ضمن هذا
المغمار ـ لأمرين:
أولهما:
يتعلق باللقاءات التى جمعت بين بعض ممثلي تنظيم الحركة الوطنية
الليبية وبين ممثلي تنظيم الإتحاد الدستوري الليبي، والتى
أجلت الحوارات ـ الجارية ـ فى أثناءها عن الموقف المعنى.
ثانيهما:
بلورة أصحاب تنظيم الحركة الوطنية الليبية لإنطباعهم الخاص
(المغلوط) حول توجه وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي فى مقالة
نشرتها إحدى المطبوعات الصادرة عن تيار حزب البعث العراقي فى الخارج؛ وما
طرأ ـ من جراءها ـ من مراسلات ومكالمات هاتفية (بخصوصها)، قمت بها مع
رئيس تحرير المطبوعة، والتى بينت فى مجملها موقف تنظيم الحركة
الوطنية الليبية المنوه عنه.
1.
اللقاءات:
توطئة ..
قبل الشروع فى سرد حيثيات اللقاءات التى تمت بين ممثلي التنظمين فى إطار
محاولة مد جسور التعاون، لخلق عمل مشترك يخدم مصلحة القضية الوطنية فى
مقارعة نظام الإنقلاب العسكري المسيطر على مقاليد السلطة فى ليبيا؛ أجد
من الجدير بالذكر الإشارة إلى إن معظم الجماعات (الليبية)
المنضوية تحت كيانات التنظيمات العقائدية، المؤمنة بتوجهات حزبية خاصة،
والتى يُطلق عليها جزافاً "الجماعات التقدمية"؛ قد أنجرفت بواعز من
سمات الفكر الليبرالي ـ التى تُشكل القاسم المشترك فى برامج
تنظيماتها ـ إلى تبنى توجه معادى للأنظمة الملكية، وتصنيفها
كأنظمة محافظة (رجعية)، لا تنسجم والفكر التحرري الذى ينتمى إليه
أفرادها.
ومن هنا، لم يكن من المستغرب أن يُلقى هذا التوجه بظلاله القاتمة
على رؤية أصحاب تنظيم الحركة الوطنية الليبية لشكل النظام المرغوب
فى حكم ليبيا، والذى لم يكن قطعاً النظام الملكي، الذى ساد حكمه
ليبيا منذ إستقلالها وحتى إستيلاء زمرة الضباط الخائنة على السلطة
بوسيلة الإنقلاب العسكري (غير الشرعية) فى سبتمبر 1969م. وهذا ما كان
له تأثيره ـ بالطبع ـ على تكوين موقفهم إزاء كيان الإتحاد الدستوري
الليبي، الذى أرتبطت دعوته وتوجهه فى أذهانهم بعودة نظام الحكم الملكي
إلى ليبيا.
اللقاء بالسكر ..
أتصل بي الأستاذ نوري الكيخيا فى صيف سنة 1983م، من العاصمة
البريطانية، وأخبرني بإنه يرغب فى زيارتي، بصحبة السيد محمد السكر،
حيث ـ كان ـ قد ألتقى به مؤخراً، وأتفق معه على ترتيب زيارة لي، بعد أن
وجد عنده الرغبة فى لقائي والحديث معي.
ويُعتبر محمد السكر ـ الذى يحترف مهنة المحاماة ـ أحد أساطين
الرعيل الأول لتيار البعث الليبي؛ كما يُعد أحد الأقطاب الفاعلة والمؤثرة
فى داخل كيان تنظيم الحركة الوطنية الليبية؛ وهذا ما أهله، فى
فترة لاحقة (نوفمبر 1984م)، لتولى منصب الأمين العام فيه.
**
* **
عبرت لنوري الكيخيا عن ترحابي به وبمحمد السكر، ورتبت معه موعداً لزيارتي
بمنزلي فى مدينة مانشستر؛ وقد أشار نوري الكيخيا فى إتصاله إلى أنه سيحضر
معهما الأستاذ صلاح المغيربي، المتواجد فى تلك الفترة ببريطانيا،
ثم عقب معلقاً بإن (المغيربي) سيحضر بصفته الشخصية، وليس الحزبية، حيث
كان ينتمى، فى حينه، إلى تنظيم الجبهة الليبية الوطنية الديمقراطية.
وجاء اليوم الموعود، بحضور ثلاثتهم لمنزلي؛ وكُنت والمرحوم محمد
القزيري وشقيقي هشام فى إستقبالهم. وبعد إداء واجب الضيافة،
إنصرفنا لساعات عديدة فى نقاش حميم، أستغرق جل وقته فى أحاديث محمد
السكر المتكررة، والتى أتسم فيها بعدم اللياقة، وإفتقاره لمراعاة
أصول الحوار؛ مظهراً عدوانية فجة، بذل جهداً عسيراً لإبرازها فى أقبح
صورها. كما أتصف بالتعصب القبلي الشديد، الذى كان لنعرته المقيتة
السطوة الكاملة على شخصيته، فقد كانت عصبيته القبلية (صفة) جلية
وبارزة فيه، لا يمكن للمرء ـ بأي حال ـ أن يخطىء ملاحظتها، خاصة إذا أخذ
مجرى الحديث سبيلاً لمناقشة أبعاد القضية الليبية.
وقد كان صلاح المغيربي على النقيض من محمد السكر فى
إقتناءه للكياسة واللباقة والأدب الجم؛ وقد شارك فى الحوار ـ الدائر ـ من
خلال توجيهه لبعض الإستفسارات حول فكرة وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي.
**
* **
وهكذا، فقد سيطر الملل السقيم على الحاضرين وهم يصغون لأحاديث محمد
السكر حول أمجاد بطولاته التى صال وجال فيها على النظام الملكي،
مبالغاً ـ بصفة متكررة ـ فى تجريح شخص الملك إدريس (رحمه الله).
ومن نوادره، التى كان يفخر ويزهى بها فى حبور شديد، أثناء لقاء ذلك
اليوم، قوله بإنه كلما قال له أحدهم: "سيدي إدريس "؛ رد عليه ـ
السكر ـ فى التو واللحظة بقوله: " سيدك أنت " !. وعلى الرغم من أن
أي عاقل يستمع لمثل هذا القول، سيلفت نظر السكر بأن الشخص الذى يقول
"سيدي إدريس"، هو يعنى فى مجمل كلامه أن إدريس سيده، ولا
يحتاج إلى تعقيب (السكر) بالجزم على أن إدريس سيده، فالشخص المعنى
لم يقل ـ من الأساس ـ للسكر: "إدريس سيدك"، حتى يحتج السكر على
قوله، ويعيد له كلامه بحرفية بغبغاوية تامة.
وفيم يخص الدستور، فقد قال لي محمد السكر: " إن الدستور الملكي،
هو دستوركم ! ـ ويقصد بذلك أنه دستور الإتحاد الدستوري الليبي ـ أما نحن
فى تنظيم الحركة الوطنية الليبية، لنا دستورنا !؛ فلنجتمع سوياً، ونضع
دساتيرنا على مائدة النقاش، ولنتساوم حولها !، أو كما يقول الأنجليز
Let us
compromise
".
**
* **
لم يؤلمني ـ فى ذلك اللقاء ـ تعبير وإفصاح محمد السكر عن آرائه غير
المتماثلة مع آرائنا فى الإتحاد الدستوري الليبي على البتة، فهذا يُعد من
أساسيات حرية التعبير والأختلاف الفكري. خاصة أنني كُنت ورفاقي نعلم
(مسبقاً) بالخلاف فى الرأي بين شخصية مؤدلجة، يحتوى فكرها على توجه
عقائدي، ترفض التنازل عنه لأي توجه آخر يخالفها الرأي ولو بقيد أنملة.
ولكن الذى أساءني وألمني بشدة، هو خروج ضيفي فى حديثه عن حدود اللياقة فى
الحوار؛ إضافة إلى تطاوله بدون أدنى حدود الموضوعية على شخص الملك
إدريس، بقصد التجريح، وليس بغرض النقد المفيد. ولم أكن أملك ـ فى ذلك
اللقاء ـ من أمري مجالاً للإختيار، فقد كان الرجل ضيفي، ولا يسعنى
فى مثل هذه الحالة سوى كظم مشاعر غضبي وإستيائي، والتحلى بالحلم إزاء
فجاجة كلماته غير الرشيدة.
ولعل أفضل وصف يمكن للمرء تخيله تجاه ذلك الموقف الذى لم أكن أُحسد عليه،
هو أحساسي بالوقوع فى شرك لا فكاك لي منه، فلم يكن من السهل علي
أن لا أفقد رباطة جأشي، والتغاضى عن إستفزازات وعدوانية ضيفي وعدم
لباقته؛ ولكن فى ذات الوقت، كُنت مجبراً على الإذعان لأحكام واجب الضيافة
التى كانت تحتم علي الإلتزام بالصمت والإستعانة بالصبر.
وهكذا، فقد آل ذلك اللقاء إلى غير جدوى، وضاع جهد ووقت الجميع فى لغط لم
يكن له ضرورة تُذكر. ولم أرى محمد السكر مرة أُخرى، لكني سمعت أنه تصالح
مع النظام وعاد إلى ليبيا خلال عقد التسعينات من القرن الماضي. كما لم
ألتق صلاح المغيربي منذ ذلك اليوم.
**
* **
اللقاء بفارس ..
كُنت أعلم يقيناً، بإن ألتقائي بأية شخصية مؤدلجة، تؤمن بفكر عقائدي، لن
يُمكنني من إقناعها بالتخلي عن فكر تنظيمها، وتبنى فكرة توجه الإتحاد
الدستوري الليبي؛ ولهذا كان الغرض (دوماً) من الإلتقاء بمثل هذه الشخصيات
يعود لرغبتي الجامحة فى تحقيق قدر من التوافق والتعاون فى مجال النضال
الوطني، عساه أن يعود بالفائدة لخدمة قضية بلادنا.
بمعنى آخر، أن قناعاتي الشخصية الخاصة تقف ـ على الدوام ـ عند حدود حرية
الرأي والفكر لدى الآخرين، فلا أسعى إطلاقاً لمطالبة الآخر
بالتخلى عن فكره وقناعاته؛ وفى المقابل، أتوقع من الآخر أن يمثتل
لنفس المبدأ، حتى يأت أمر (ذلك) الإلتقاء ثماره المنشودة، المتمثلة فى مد
أواصر التعاون لخدمة قضية بلادنا.
**
* **
بعد لقائي مع محمد السكر بعدة أشهر، أتصل بي أحد الأشخاص الذين
تربطني به صداقة قديمة، والذى يُعد من أعضاء تيار البعث الليبي البارزين؛
ليبلغني بإن الأستاذ سليمان فارس، أحد أعضاء تنظيم الحركة الوطنية
الليبية، سيقدم إلى لندن فى زيارة سريعة لمدة يومين، ويتمنى ـ بطلب من
تنظيمه ـ الإلتقاء بي فى أثناء الفترة التى سيمكثها هناك، والتى تحول
لقصرها دون حضوره لمانشستر.
أشرت لصديقي عن أمر اللقاء الذى تم بيني وبين محمد السكر، فوجدته
لا يعلم من أمره شيئاً !. وقد أعتبر صديقي ـ من باب التخمين ـ بأن زيارة
السكر لي بمنزلي، تدخل فى إطار التواد الإجتماعي، ولا تمت بعلاقة لنشاط
تنظيمه بصلة فى هذا الصدد، ولهذا لم يبلغهم به؛ لأنه لم يكن مفوضاً ـ
منهم ـ لحضوره بصفته الحزبية.
أستقليت الطائرة من مانشستر إلى مطار هيثرو (بلندن)، بعد الترتيب مع
سليمان فارس على الإلتقاء به هناك. وجلسنا فى أحد مقاهي
المطار، وأخذنا الحديث لبضعة ساعات، أكتشفت خلالها كياسة وتهذيب وذكاء
شخصية محدثي.
دار حديثنا، أنا وسليمان فارس، حول
فكرة الإتحاد الدستوري الليبي، والتى أماطت توضيحاتي له عن لثام
الغموض الذى كان يُغلف إنطباعاته السابقة (المشوهة) حولها. كما تطرق
حديثنا لمدى جدوى تبنى دستور الإستقلال، الذى عبر سليمان فارس عن رأيه ـ
فى هذا الخصوص ـ بعدم قناعته بأمر المناداة بدستور تقيد إحدى بنوده حرية
الصحافة !. وهو يقصد نص المادة (23) من الدستور الليبي، التى تقول: "
حرية الصحافة والطباعة مكفولة في حدود القانون ".
ورغم إحترامي لرأيه الذى ساقه فى صدد رفضه لدستور الإستقلال، إلاّ أن هذا
لم يمنع العجب من مساورة نفسي على حجته الواهنة؛ فقد توقعت منه، وهو رجل
القانون الذى يتخذ من المحاماة مهنة له، أن يكون أكثر معرفة من غيره بعدم
وجود دستور واحد على الأرض لا تتضمن بنوده قوانين مسنة ـ خصيصاً ـ لأجل
تنظيم نشاط قطاعات الدولة المختلفة.
والقوانين المنظمة ـ فى هذا المغمار ـ لا تحد من حرية الرأي لكنها تقنن
سبل عمل القنوات التى تُمكن المواطن من إستعمال حقه فى إبداء رأيه؛ وتُعد
الصحافة ـ فى هذا الخطب ـ إحدى قطاعاتها الهامة. وحرية الصحافة ـ من
ناحية أُخرى ـ وكما يعلم الجميع لم تكن فى يوم مقيدة أو مكبلة فى ظل حكم
العهد الملكي فى ليبيا.
وعندما حان موعد الرحيل، ودعت سليمان فارس، متمنياً اللقاء به مرة أُخرى.
ولكن لم تشاء الأقدار أن تجود بلقاء آخر؛ ليصبح لقائنا الأول هو الآخير.
ورغم ذلك فقد ترك ـ ذلك اللقاء ـ فى النفس صورة طيبة لشخصية جديرة
بالإحترام.
**
* **
2.
مقالة
مجلة الطليعة العربية:
رغم أن اللقاءات السابقة ـ قد يكون ـ فيها ما يكفى لإستشفاف موقف
تنظيم الحركة الوطنية الليبية إزاء توجه الإتحاد الدستوري الليبي؛ إلاّ
أن موضوع المقالة الذى تم الإشارة إليه أعلاه، والذى نشرته مجلة
الطليعة العربية (البعثية التوجه والتمويل) حول المعارضة الليبية؛
يوضح بشكل قاطع على الموقف المعنى بدون أدنى ريب أو لبس.
ومجلة الطليعة العربية، من باب التعريف، مطبوعة أسبوعية ـ كانت ـ
تصدر من العاصمة الفرنسية باريس، وتعنى بالشئون العربية، ويرأس
هيئة تحريرها الأستاذ نصيف عواد، الذى يُعد من أبرز أعضاء تيار
البعث الفلسطيني، وقد شغل ـ لمكانته الرفيعة فى هذا الصدد ـ منصب مدير
المكتب الإعلامي لصدام حسين، فى الفترة التى سبقت تعيينه رئيساً لتحرير
المجلة المعنية.
فحوى المقالة ..
خصصت مجلة الطليعة العربية فى عددها الصادر بشهر أغسطس سنة 1983م
مقالة، سلطت الضوء فيها على المعارضة الليبية، تحت عنوان " عشرة فصائل
منظمة وهدف واحد: إسقاط نظام القذافي ". ولعله ليس بخاف على أحد، أن
حيثيات المقالة والمعلومات الواردة فيها، قد تم إستقاء مادتها من عناصر
البعث الليبي.
وما يهمنا هنا، إن موضوع المقالة ـ فى إطار حديثه عن المعارضة الليبية ـ
قد وصف الإتحاد الدستوري الليبي، بإنه تنظيم يسعى لإعادة النظام الملكي
لحكم ليبيا؛ وهذا ما يُعد مجافي للحقيقة، ويخالفها. ولذلك، بادرت بتوجيه
رسالة لهيئة تحرير المجلة، بتاريخ 21/11/1983م، ألفت (فيها)
الإنتباه للخطأ الوارد فى المقالة المشار إليها، وأطالبها بتصحيحه.[3]
ويرجع دافعي من وراء مراسلة الهيئة المسئولة عن تحرير المجلة، إلى كون
مطبوعتها واسعة الإنتشار بين جموع القراء العرب بصفة عامة، وبين جمهور
قراء التجمعات الليبية فى المهجر بشكل خاص، حيث كان أعضاء جماعة البعث
الليبي شديدي الحرص على توزيعها (مجاناً) بين الليبيين، فى الخارج، على
أكبر نطاق ممكن.
ومن هنا، لم أكن أريد للتحليل (الخاطىء) الوارد فى المقالة المذكورة، حول
توجه الإتحاد الدستوري الليبي، أن ينطبع بصورته الزائفة فى أذهان
قراء المجلة ـ المعنية ـ بشكل عام، وأبناء ليبيا ـ منهم ـ بشكل خاص.
والحقيقة التى كان يجب على كاتب المقالة ـ المنوه عنها ـ إدراجها
ضمن حيثيات مقالته، هى أن توجه الإتحاد الدستوري الليبي، كما هو معلوم
للقارىء المتابع لسلسلة مقالة الإعلان عن تأسيس الإتحاد الدستوري
الليبي التوثيقية الجاري نشرها، ينصب فى السعى لإعادة الشرعية
الدستورية إلى نصابها الطبيعي فى ليبيا.
إما موضوع تحديد شكل النظام الذى يحكم البلاد ـ بعد خلاصها من حكم النظام
الفاسد ـ فهذه مهمة منوط أمرها بأفراد الشعب الليبي بأسرهم، وليس للإتحاد
الدستور الليبي، أو غيره من التنظيمات الليبية الآخرى، أو أفراد المعارضة
الليبية فى الخارج، الحق فى تقريره أو البث فيه.
**
* **
لقد حملت رسالتي لهيئة تحرير مجلة الطليعة العربية ـ فى فحواها ـ المعنى
المدرج فى التعقيب السابق، والذى يشير لحقيقة توجه الإتحاد الدستوري
الليبي. وقامت المجلة (فى ردها) بنشر رسالتي إلى جانب تعليق يشير
إلى أنه على الرغم من توجهنا الدستوري، إلاّ أن ذلك ينحصر فى إطار
تمسكنا بالدستور الملكي !.
وقد جانبت الحصافة والدقة الموضوعية، هيئة تحرير المجلة بنشرها للتعليق
السابق؛ وذلك لأن الحقيقة المنطقية المجردة من أي تحيز، تفصح للمهتم ـ
بهذا الشأن ـ أن التمسك بالدستور الليبي الذى أقره ممثلي الشعب الليبي،
ليكون نبراس دولتهم الوليدة الذى يرشدهم لحقوقهم وواجباتهم، وهو
مظلتهم التى يعمل تحت سقف قوانينها كافة مواطنيها فى سواسية تامة،
وهو ميزان العدل الذى يحتكم تحت شرعية أحكامه جميع أفراد شعبها
بكامل عددهم.
ومن هذا المنطلق، فإن تمسك الإتحاد الدستوري الليبي بدستور
الإستقلال، لا يعنى البتة بأن توجهه ملكياً، أو أن أعضائه لديهم
تصور لشكل الحكم الجديد ـ الذى سيحل محل نظام الحكم الفاسد ـ محصوراً فى
الملكية بذاتها.
الخلاصة
..
قمت بالإتصال ببعض أعضاء التيار البعثي من الذين تربطني بهم صداقة قديمة،
وشرحت لهم الموقف برمته، وطلبت منهم رفع إحتجاجي على ما نشرته مجلة
الطليعة من تحليل خاطىء لمسئوليهم؛ ووضحت لهم بإنه من شأن مثل هذا الخطأ
المنشور فى المقالة المعنية أن يُرسخ فكرة زائفة لدى أفراد الجماعات
الليبية فى ساحة معترك النضال الوطني.
وقد تفهم ـ هؤلاء الأصدقاء ـ للموقف بصورة بالغة، وأعتذروا عن الخطأ الذى
وقعت فيه هيئة تحرير المجلة، بنشرها لتحليل مجافى للحقيقة؛ ووضحوا لي بإن
ذلك لم يكن بخطأ متعمد أو مقصود، ولكنه نابع عن قناعة من قاموا بنشره، فى
إعتقاد منهم أنه يمثل الحقيقة. ووعدوني بإصلاح الخطأ من مصدره.
وهكذا كان، فقد إتصلوا برئيس التحرير (الأستاذ نصيف عواد) الذى كان غاية
فى النبالة والوعي الفكري الوقاد؛ فقد تجاوب مع رغبتي، وطلب مني كتابة
التصحيح الذى يرضيني، لينشره بحذافيره فى مجلته دون مس أو إنقاص.
وبالفعل، قمت بكتابة رسالة توضيحية، تتضمن فى طياتها حقيقة توجه الإتحاد
الدستوري الليبي، تم نشرها ـ على عمودين ـ فى ذات المجلة، بعددها الصادر
فى الثاني عشر من شهر ديسمبر 1983م، تحت عنوان: " إلتزامنا بالدستور، لا
يعنى بإننا ملكيون ".[4]
** * **
وفى ختام الحديث عن موضوع هذا الجزء، الخاص بموقف تنظيم الحركة الوطنية
الليبية، ومن منطلق الحرص على الأمانة الصادقة، والإنصاف
العادل، وما يفرضانه على المرء من وجوب الإلتزام التام بالدقة
والموضوعية، فى سرده ونقله لحيثيات الموضوع المتناول. أجد لزاماً علي ـ
فى هذا السياق ـ أن أشير إلى أنه رغم عدم تحقق التعاون فيم بين الإتحاد
الدستوري الليبي وتنظيم الحركة الوطنية الليبية.
وأيضاً، رغم الإختلاف فى وجهات النظر، وفى كيفية إختيار أدوات توجهات كل
تنظيم من بيننا ـ على حدة ـ فى إطار النضال الوطني؛ إلاّ أنه لم يبدر فى
يومٍ من أعضاء تنظيم الحركة الوطنية الليبية أية تصرفات عدائية، أو إظهار
مشاعر الجفاء التى من شأنها أن تؤدي إلى الخصام والقطيعة مع أعضاء
الإتحاد الدستوري الليبي؛ كما لم يقم أحدهم، فُراد أو جماعة، بنشر
الأقاويل الباطلة، أو إثارة الشائعات المغرضة، التى تهدف إلى إقامة
العراقيل والعوائق أمام نشاط الإتحاد الدستوري الليبي.
يـتـبــع
..
محمد بن غلبون
24 فبراير2008
chairman@libyanconstitutionalunion.net
[1]
أنظر الجزء السابق من هذه المقالة، تجده على الرابط التالي
:
http://www.lcu-libya.co.uk/lcustry2.htm#arb20
[2]
أنظر الجزء السابق من هذه المقالة.
[3]
مرفق أدناه صورة
لهذه الرسالة
ونسخة مطبوعة منها ( ملحق رقم 1 ).
[4]
مرفق أدناه صورة
لهذه الرسالة
ونسخة مطبوعة منها ( ملحق رقم 2 ).
|