بسم الله
الرحمن الرحيم
الجزء العشرون
[2]
الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي
كما سبق الإشارة فى جزءٍ سابق[1]
بأنه سوف يتم الحديث فى الأجزاء المتتابعة لهذه المقالة، تارة عن
مواقف إحدى الشخصيات الليبية تجاه الإتحاد الدستوري الليبي، وتارة
أُخرى عن مواقف أحد تنظيمات المعارضة الليبية فى نفس الخصوص.
ومن هنا،
فإن حديثنا المتناول فى هذا الجزء، والجزء الذى يليه، سوف تدور حيثياته
حول أثنين من بين أبرز تنظيمات المعارضة الليبية التى شهدتها ساحة
النضال السياسي ضد نظام الإنقلاب العسكري، وهما: التجمع الوطني
الديمقراطي الليبي؛ والحركة الوطنية الليبية.
غير أنه، قبل الشروع فى سرد الوقائع المكونة لموضوع هذا الجزء الذى
سيتناول فى حيثياته موقف التجمع الوطني الديمقراطي الليبي تجاه
فكرة وأهداف الإتحاد الدستوري الليبي، والذى سيتم إتباعه فى الجزء
القادم بالتطرق لموقف الحركة الوطنية الليبية فى ذات الشأن؛ أرى
من الضرورة بمكان ـ فى هذا المضمار ـ أن يتم تقديم نبذة توضيحية
عن كنه الصراع السياسي
التنافسي
الذى يكتنف (بصفة عامة) طبيعة
معظم
كيانات الأحزاب والتنظيمات السياسية فى العالم.
بمعنى
آخر،
سوف أحاول فيما سيلي تقديم تفسيراً مقنعاً لشكل العلاقة السائدة بين
التنظيمات السياسية المتنافسة فى نشاطاتها لتحقيق الأهداف العامة
المنشودة لمجتمعاتها، والتى تأخذ فى هذا الإطار ـ بحسب طبيعتها ـ شكلين
مختلفين:
-
إذا
كانت الحالة الماثلة تخص
إحدى
المجتمعات التى يُسيطر على الحكم فيها أحد الأنظمة الإستبدادية، فإن
الأحزاب والتنظيمات السياسية المعلومة سوف تتنافس ـ فى فترة
الكفاح السائدة ـ من خلال الوسائل والنشاطات المختلفة أو
المتشابهة للوصول لهدفها (المشترك) القائم على محاولة تحقيق
التغيير السياسي الشامل وإقامة نظام حكم بديل.
-
إما إذا كانت الحالة الماثلة تخص إحدى
دول المجتمعات الديمقراطية التى تُبيح دساتيرها وقوانينها شرعية
الصراع التنافسي بين أحزابها وتنظيماتها السياسية، لنيل ثقة أفراد
المجتمع لحكم البلاد، بمعيار يحدده ويفصل فيه رأي المواطن الذى يمثله
ـ فى ذلك ـ صوته الإنتخابي الحر فى صندوق الإقتراع العام؛ فإن
التنافس بين الأحزاب والتنظيمات السياسية، فى هذه الحالة، سوف يأخذ
شكل السعى الحثيث ـ لكل منها على حدة ـ لتولى مقاليد إدارة الحكم عن
طريق محاولة إقناع المواطنين بإن برامجها السياسية (الموضوعة) تنشد
من خلال خططها المرسومة إلى تحقيق مصالحهم بالدرجة الأولى ومصالح
الوطن بوجه عام.
إن هذه النبذة التوضيحية التى أزمع طرحها فيما سيأتي، سوف تُمكن ـ فى
نظري ـ القارىء المتابع لموضوع هذا الجزء والجزء القادم، من الإلمام
بتفاصيل الصورة الكاملة لديناميكية العوامل المحركة والمتحكمة فى سلوك
أعضاء وقيادات التنظيمات والأحزاب السياسية فى العالم بمجمله؛ وذلك
كمدخل منطقي (ليس) لإستيعاب وفهم طبيعة سلوك أعضاء وقيادات
الأحزاب والتنظيمات الليبية ـ على وجه الخصوص ـ إزاء مواقف ونشاطات
بعضها البعض الآخر فى إطار
الكفاح التنافسي لتحقيق التغيير السياسي المطلوب فى البلاد فحسب، بل
فهم وإستيعاب الكيفية التى نشأت على أساسها هذه الأحزاب والتنظيمات
(سواء القائم فكرها على نسق إيديولوجي أو بدونه).
** * **
المفهوم والنشأة ..
لقد فرض تكاثر السلالات البشرية عبر التاريخ بحث الإنسان عن طوق تنظيمي
جماعي يضمه مع بعض أفراد من بني جنسه لتحقيق أهدافهم المشتركة، وتأمين
السلامة الشخصية والعامة لأفراد الجماعة ككل.
إذن، فإن حاجة الإنسان لوجود كيانات تنظيمية تجمعه والآخرين ـ
من بني جنسه ـ الذين يتفقون معه فى (وحدة) الأهداف والمصالح المشتركة،
هى التى أوجدت منذ القدم الكيانات التنظيمية، التى كانت نواتها فى
الأزمنة الضاربة بقدمها فى التاريخ البشري تتمثل فى الأسرة
أولاً، ثم العشيرة، ثم القبيلة، ثم المنطقة
برمتها.
ومع التطور المدني عبر عصور التاريخ المتعاقبة، تلاشت فى معظم مناطق
العالم أواصر العلاقة التنظيمية للشكل القبلي فى داخل المجتمعات
المتحولة لهيئة الكيان المتمدين؛ وضحى مواطني الدولة الحديثة ـ فى تلك
المجتمعات ـ أكثر إحتياجاً من أي وقت مضى إلى الإنضواء تحت أجنحة
كيانات تنظيمية جديدة تقوم أواصر روابطها على المصالح والأهداف
المتجانسة.
وذلك بعد أن شاكت المصالح المختلفة ـ والمتضاربة فى بعض الأحيان ـ فى
داخل دولهم، والأهم من ذلك أنفتحت الأبواب على مصرعيها أمام سيطرة بعض
الطغم المستبدة على مقاليد إدارة الدولة، مما أدى إلى تضرر المصالح
الخاصة والعامة لمواطني المجتمعات المعنية.
وكان المخرج الطبيعي ـ لهذه المعضلة العويصة ـ قد تمحور لأصحابها فى
سبيلين:
-
فى المجتمعات التى شهدت ثورات حضارية جذرية[2]
أدت بها إلى تبنى أشكال حكم سياسية ليبرالية، كون الأفراد ـ فيها ـ
تنظيمات وأحزاب سياسية تلتف حول برامج وأفكار ومشاريع
تبشر للنهوض بمصالح المواطنين والدولة، وتزمع قياداتها على أمر
الضلوع بتطبيقها عند وصولها لدفة الحكم.
-
إما المجتمعات التى قبعت تحت مظلة التخلف، بسبب بعض الظروف التاريخية
الشائكة ـ التى لا يتسع المجال هنا لذكرها ـ فقد أنضوت دولها فى إطار
التقسيمات الثلاث التالية:
-
ظلت فئة منها ـ على حالها ـ محتفظة بمعالم الكيان التنظيمي القبلي
القديم.
-
تجاوزت
فئة أُخرى جمود الحاجز العشائري القبلي، وكونت كيانات تنظيمية
سياسية، تم حظرها ـ فى بعض تلك المجتمعات ـ ومنعها وتجريمها من قبل
الأنظمة المستبدة المسيطرة على السلطة، فدفعها ذلك إلى تبنى نهج
العمل السري المحظور.
-
جمعت الفئة الثالثة فى تركيبة بنيانها بين الكيان التنظيمي القبلي،
وبين الكيان التنظيمي السياسي من خلال تنظيمات وأحزاب سياسية معارضة
ـ لكنها ـ محظورة من قبل سلطة الحكم المستبدة (لعل ليبيا تحت حكم
نظام الإنقلاب العسكري مثالاً يمكن الإستشهاد به فى هذا
المضمار).
** * **
كيفية التكوين، والمبادىء القائمة، والأهداف المنشودة ..
هناك حقيقتين هامتين، تحدد ـ أبعادهما ـ أولى الفروق المؤثرة فى
دينامكية عمل الأحزاب والتنظيمات السياسية الناشطة فى كلا العالمين
(النامي والمتقدم)، ويكمن فى التعرف عليهما البداية لفهم كيفية
تكوينها، والمبادىء التى ترتكز أسس تكوينها عليها، وإطار
أهدافها المنشودة:
1.
إن غالبية أحزاب وتنظيمات الدول التى تبنت الدرب الديمقراطي هى عريقة
التكوين، فوجودها قد أتى كنتيجة لظهور فكرة تطبيق النهج
الديمقراطي، المتولدة عن مخاض التطورات الفكرية (الحضارية) التى
أفرزتها ـ فى جوهر بنيانها ـ عملية التغيرات الجذرية لأسس قيمها
الإجتماعية والسياسية والإقتصادية (أنظر: الهامش الثاني أدناه). حيث
تحقق لها فى غضون إعتمال هذه التغيرات، الإنتقال من تركيبة
بنيان الإقتصاد الإقطاعي المتخلف، إلى الدخول فى صرح
بنيان عالم الإقتصاد الصناعي العملاق وماتبعه من تبنى لسياسات
الإقتصاد الحر، ومن تغيرات فى تركيبة الشكل السياسي
لمنظومة الحكم.
2.
بينما غالبية أحزاب وتنظيمات الدول المتخلفة والقابعة تحت حكم الأنظمة
المستبدة ـ ونخص منها هنا الدول العربية ـ مستوردة فى فكرة
تكوينها، ومقلدة للأحزاب والتنظيمات القائمة فى المجتمعات ذات
النهج الديمقراطي (المذكورة أعلاه)، أو مقلدة لأحزاب كتلة دول الأنظمة
الشمولية (ذات الحزب الواحد). ولعلنا نجد ذلك واضحاً فى كيان معظم
الأحزاب والتنظيمات القائمة على الفكر القومي، وبالمثل فى
كافة الأحزاب والتنظيمات القائمة على الفكر الإشتراكي،
والإستثناء الوحيد لأصالة التكوين المنتمى للفكر المستمد من جذور
التجربة الذاتية هو (حزب) جماعة الأخوان المسلمين، الذى تكون
قوامه على أساس قيم الفكر الديني الموروث.[3]
بمعنى آخر، فى الفترة التى أعقبت وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها،
حصلت معظم دول العالم المستعمرة على إستقلالها، وذلك بعد أن تغير مفهوم
الإستعمار (المباشر) فى عقلية الإدارات الحاكمة لدول الإستعمار، من
فكرته القديمة القائمة على الإحتلال المباشر للدول المستضعفة
وإستحلاب ثرواتها[4]،
إلى صورته الإستعمارية الجديدة القائمة على بسط فروض التبعية
الإقتصادية، من خلال سياسات مرسومة، تسير جلها فى فلك الحرص على
إبقائها فى أوضاع التخلف المقيدة بأغلاله.
وبدون الدخول فى تفاصيل لا يهم أمرها صلب هذا الموضوع، فقد شكل
الوعي السياسي فى بعض البلدان المحتلة، والتى يهمنا منها على وجه
الخصوص الدول العربية، التى تمكنت بضعة فئات من الأفراد فى بعض دولها،
من الإستفادة من المد الثقافي والتعليمي الذى سبق (وصاحب) فترة
الإجتياح الإستعماري، فتفتحت مداركها لأبعاد الفكر المتداول والفلسفات
المنتشرة.
ومع إعتمال خضام الحركة الفكرية بين تلك الفئات، ظهرت بينها مشاريع
تكوين الجمعيات والتنظيمات والأحزاب الإجتماعية والسياسية، فى محاكاة
وتقليد وترجمة لواقع حال الدول الإستعمارية فى أوطانها الأم، فظهرت
الأحزاب والتنظيمات السياسية التى لا تمت لواقع الحياة فى الأوطان
العربية بصلة تذكر، فعلى سبيل المثال:
-
ظهرت فى بعض البلاد
العربية التى كان لها دور الريادة فى إنشاء التنظيمات والأحزاب
السياسية على أرض الواقع المعاش ـ ثم سرت إلى بعضها الآخر فى تقليد
أعمى ـ أحزاب شيوعية بدون جذور وعماد تُأصل أو تبرر كيان وجودها؛
فالشيوعية أو الدرب الإشتراكي كمنهج حكم سياسي قد ظهر ـ فى إطلالته
الأولى ـ كتطبيق على أرض الواقع نتيجة لثورة[5]
دفعت إليها تراكمات إجتماعية وسياسية وإختلالات إقتصادية سرت بين
جموع الشعب الروسي الذى عانى وقاسى ويلات ظيم أوضاعها المتردية
آنذاك؛ فأستغل قادة الثورة نجاح زخمها الشعبي العارم فى إسقاط الحكم
القيصري، ليقيموا على أنقاضه النظام الشيوعي (الحديدي) المستبد، الذى
تم تأسيسه بنواة نظرية كارل ماركس الإقتصادية، مع تحويرها،
لتنتج فى محصلتها النهائية عن وصول أحد أكبر الأنظمة الدكتاتورية
للحكم فى تاريخ البشرية الحديث.
-
ترجمت وقلدت بعض
جماعات من أفراد الفئة المتأثرة بالثقافة السابحة عبر الدول
الإستعمارية، تأسيس تنظيمات وأحزاب وطنية تقوم دعواها على تبني الفكر
القومي؛ فى وقت غير ناضج وغير منطقي لتطبيق فكره بين شعوب
يسودها الفقر وإنعدام الوعي، وتدين بالعصبية على كافة المستويات:
الأقلية، والدينية، والقبلية، والإقليمية.
** * **
ما هو الصحيح ؟ ..
إن المنطق العقلي فى هذا الإطار، يقول لنا ويناشدنا بأن ما تحتاجه
مجتمعاتنا العربية فى عشية إستقلالها، هو ظهور جمعيات وتنظيمات وأحزاب
تقوم أفكارها وبرامجها وأهدافها على السعى لنشر الوعى العام بين
المواطنين، وإحياء اليقظة الوطنية تجاه العمل لرفعة الوطن الذى
ترتكز جل همومه ومشاكله فى التخلف السائد بين أفراده، والذى
بسببه تتكرس إستبدادية حكامه، وتتكبل بقيود علته آمال وطموحات نهوضه
وتقدمه، فى عالم لا مكان فيه للمجتمعات المتخلفة.
والعبرة هنا، أن المجتمعات العربية، سواء في فترة رزوحها تحت سيطرة
الحكم الإستعماري، أو بعد تحررها ونيل إستقلالها، (لا) يسودها تخلف على
مستوى الوعي الفكري السياسي العام لأفراد مجتمعاتها المتفرقة
فحسب، بل ـ إضافة لذلك ـ فإنه تسود بينها تركيبة متخلفة على مستوى
الإنتاج القومي لإقتصاديات دولها[6].
بمعنى، إنه لا يوجد بين مجتمعاتها المختلفة دولة صناعية واحدة،
بالمفهوم الصناعي العملاق المتقدم، القائم على التصنيع المتكامل (للآلة
قبل السلعة)، الذى نرآه فى الدول الصناعية المعروفة. كما لا يوجد بينها
الوعي السياسي العام بشكله الحضاري الذى تُحترم فيه قيمة الإنسان، مثل
النموذج الذى أفرزته التغيرات الجذرية عبر القرون المتعاقبة فى
المجتمعات الأوروبية.
وهذا ما أدى إلى تجمد وضع المواطن العربي فى قالب التركيبة (شبه)
البدائية لنظام إقتصادي متخلف، مرتبط فى أحسن أحواله بدخل قومي يعتمد
على إنتاج مواد السلع الأولية (الخام)؛ ومن ناحية أُخرى، حبيس حالة
إفتقاده للوعي السياسي الذى عمق لديه الخضوع لظروفه المتردية المفروضة
عليه.
فى مثل هذا الوضع الشائك، يأتى دور الصفوة المتعلمة والمثقفة لتصحيح
مواطن الخلل المتفاقمة فى هياكل مجتمعاتها، كضرورة ملحة، ومسئولية
وطنية لا يمكن التبرم منها أو تجاهلها. لكن فئات كثيرة من هذه الصفوة ـ
المعقود عليها الآمال ـ أسست تنظيمات وأحزاب قومية وإشتراكية
تحاكى برامجها وأفكارها نماذج غير متواكبة مع أوضاع وظروف الحالة
العامة لمجتمعاتها.
وهذا أدى إلى فقدان هذه الأحزاب لقدرتها (الكامنة) على تمثيل طموحات
أفراد مجتمعاتها والتعامل مع مشكلاتهم الحقيقية؛ وعوضاً عن ذلك تاه
خطابها فى التنظير لمقولات فكرية لا يحقق صداها فى أرض واقع المجتمعات
العربية ـ عند تطبيقها ـ إلاّ تعميق حدة الخلل المستشرى فى صلب
كياناتها، وعلى سبيل المثال:
-
جاءت هذه الأحزاب
بمقولات إشتراكية تُنظر لكيفية التحكم فى عوامل الإنتاج، فى
مجتمعات لا توجد فيها ـ من الأصل ـ أدوات ووسائل الإنتاج المفترضة.
-
كما جاءت هذه الأحزاب
بدعوة من مانيفستو خطابها المبرمج لتحقيق ثورة طبقة البوليتاريا ـ
وفقاً للنظرية الشيوعية التى تتبع خطاها ـ فى مجتمعات لا يكد يوجد
بها قوة عمالية بالمفهوم الوارد فى نسق المفهوم الشيوعي.
-
وجاءت هذه الأحزاب
ببرامج وأفكار تدعو ـ عند وصولها لسدة الحكم ـ إلى مصادرة وتأميم
ركائز القوى الرأسمالية الوطنية، فى الوقت الذى لا توجد فى هذه
المجتمعات كيانات رأسمالية يقوم نشاطها على الصناعات العملاقة، أو
إمتلاكها للرأسمالية الإحتكارية المتمثلة فى كيان الشركات العابرة
للقارات، كما هو حال المجتمعات الرأسمالية المقصودة بمقولات النظرية
الشيوعية.
-
وجاءت أحزاب وتنظيمات
التيار القومي بدعوة لفرض قيام وحدة قومية بين مجتمعات يسودها التخلف
الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وفى أشد وأمس الحاجة إلى برامج تشد
من أزرها لمعالجة تفاقم مشكلات الفقر والجهل والتعصب والتخلف، وليس
تحويل عبء هذه المعضلات الإقليمية العويصة إلى كيان قومي واهن.
والخلاصة هنا، إن ما سبق توضيحه ينفى بشدة الحاجة لوجود
أحزاب شيوعية تقوم فكرتها على ثورة العمال وسيادة حكمهم فى
مجتمعات ـ عربية ـ لا يكد يوجد على أرضها مصنع واحد بالمعنى المتكامل،
ولا تمت حواصلها الإنتاجية للصناعة المتكاملة بصلة البتة، فهى مجتمعات
رعوية وزراعية فى أشكالها البدائية، كل ما تحتاجه هو تطوير وإنماء
هياكلها الإقتصادية فى كافة القطاعات التى تعانى بشدة من التخلف والتأخر
الدامغ؛ ولا تحتاج مثل هذه المجتمعات فى فترة نشوئها الإقتصادي لإخماد
براعم قواها الوطنية الصاعدة بمشاريع التأميمات الإشتراكية غير
المتناسبة مع واقع حالها النامي.
وفى نفس الوقت، إن هذا الوضع الذى تم شرح كيانه ـ فيم سبق ـ ينفى
بشدة الحاجة لوجود أحزاب وتنظيمات قومية ترتكز فكرتها على تحقيق
الوحدة القومية بين أقطار يسودها التخلف فى كافة قطاعاتها الحيوية، وهى
فى أمس الحاجة لأفكار وخطط تنموية تنتشلها من قرار تخلفها
المستشرى بين أطنابها بصورة مخيفة.
خطوة على الطريق الصحيح ..
هذه الخطط التنموية هى الخطوة الأولى التى يجب أن يتزامن معها
ويواكبها نشر الوعي بين مواطني هذه المجتمعات، والتى توجب ظهور أحزاب
وتنظيمات تحث وتدفع وتعمل على تبنى المشاريع التنموية التى تنهض
بمجتمعاتها، لأنها تأتى ـ فى هذا الخصوص ـ كأولوية ملحة، قبل تحقيق أي
نوع من التطبيقات الإشتراكية غير المتناسبة والواقع الإقتصادي لهذه
المجتمعات، أو فرض الإندماجات (السياسية) الوحدوية التى لا تحقق فى مثل
هذه الأوضاع المتردية على كافة الأصعدة والمستويات إلاّ لكوارث تضاعف
حدتها من المشكلات المتعددة التى تعاني هذه المجتمعات من علاتها.
وفقط، عندما يصل مستوى الوعي العربي إلى الذروة التى يرى
بها عوام مجتمعاته قبل صفواتهم ضرورة الدخول فى إطار وحدوي ينظم
قدراتهم وثرواتهم فى صورة تمنحهم قوة الإرادة فى المحافل الدولية[7]،
يصبح عندئذ تأسيس أحزاب وتنظيمات قومية له ما يبرره منطقياً، ويمكن
للمرء ـ فى حينه ـ أن يفهم مغزاه.
ويمكن أيضاً، فى حينه ـ يفرض واقع الحال ـ إختيار النظام
السياسي المتناسب مع الواقع الإقتصادي، عوضاً عن تقليد أوتبني نماذج من
التطبيقات الإشتراكية التى أثبتت فشلها ـ حتى ـ فى البلاد الكبرى التى
تمتلك وتحوز كياناتها على العناصر المشترطة لتطبيقها.
كما يتسنى حينئذ، بحكم الضرورة الملحة، إطلاق العنان لتبنى
الشكل الديمقراطي للحكم، واللجوء لتأسيس تنظيمات وهياكل مهنية وأحزاب
سياسية لتمثيل حقوق الفرد فيها فى إدارة الحكم، والدفاع عن مصالحه فى
إطار المصلحة العامة للدولة بأسرها.
** * **
الحصيلة ..
إذن، نستخلص مما سبق ذكره بإن الوعي المفقود، والتركيبة
الإنتاجية البدائية، مضافاً إليهما ـ كسبب مسئول عن وجودهما ـ أفات
الورث الإستعماري القديم (المزمنة) من ناحية، والإستراتيجية
الإستعمارية الجديدة المتمثلة فى خلق حالة التبعية الإقتصادية من
ناحية أُخرى؛ كانت ولازالت هى الأساس فى خلق حالة التخلف والضعف
والتشرذم لدول العالم العربي، وهى السبب ـ من جانب ـ فى وصول الأنظمة
المستبدة للحكم، وفى عدم تبنى الشكل المطلق للتطبيق الديمقراطي فى
أوطانها من جانب آخر.
وهكذا، يصبح وجود أحزاب وتنظيمات سياسية معارضة ـ مستوردة ـ فى إحدى
هذه المجتمعات، بدون وجود الإطار الهيكلي
الذى تقوم على عماده العملية الديمقراطية، مثله كمثل من يحاول قيادة
قطار على أرض خالية من قضبان السكك الحديدية. والمعنى المقصود هنا،
تعبر عنه وتوضحه النقاط الموجزة التالية:
-
إن هياكل
الحكم فى أنظمة الدولة العربية ـ فى معظمها ـ فاقدة لجوهر أسس
التطبيق الديمقراطي المطلق، وهى فاقدة ـ بالتالي ـ للقنوات الطبيعية
التى تعمل من خلالها الأحزاب والتنظيمات السياسية المعارضة.
-
إن وجود
مثل هذه الأحزاب يُعد مسألة عديمة الفائدة، وذلك بسبب شللها وعدم
قدرتها على تمثيل ونقل آراء ووجهات نظر الشريحة التى تنضوى تحت فكر
برامجها من أفراد المجتمع، لكونها محظورة عن ممارسة نشاطها فى ظل
أنظمة لا تطبق النهج الديمقراطي.
-
لقد خرجت
مثل هذه الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى الوجود بفعل التقليد لأفكار
ـ قد تكون ـ متلائمة مع ظروف المجتمعات التى أبتكرتها ومع مناخها
السياسي، لكنها فاقدة لهوية التجانس مع واقع المشكلات السائدة فى
المجتمعات العربية.
والنقطة الجديرة بلفت النظر لها فى هذا الصدد، هو أن الأفراد الذين
تهافتوا على تأسيس الأحزاب القومية والإشتراكية ـ فى البلاد
العربية ـ التى تسعى برامجها إلى إحلال أفكار لا يمت نسيجها بصلة
لأوضاع وتركيبة مجتمعاتها السياسية والإجتماعية والإقتصادية، أنما هم
بذلك يُعرضون أفكار وبرامج أحزابهم، ليس لتصنيفها بعدم الجدوى
والفاعلية ـ فقط ـ فى هذا الصدد؛ بل أنهم يكشفون عن شذوذها وغرابتها فى
نطاق هذا المحيط، وذلك بسبب الفارق فى إختيار توقيت طرح بعضها (فى حالة
الترويج ـ أو تطبيق ـ النموذج القومي)، وبفارق عدم التمييز العقلي بين
صلاح نموذج ـ ما ـ لواقع دون غيره (فى حالة الترويج ـ أو تطبيق ـ
النموذج الإشتراكي).
** * **
الشرعية المفقودة ..
أجد من الضرورة قبل الحديث عن مدى شرعية عمل الأحزاب المختلفة فى إطار
مجتمعاتها ذات التطبيقات السياسية المتباينة، أن ألفت النظر إلى أنه
يجب علينا التفريق بين نوعين من الأحزاب والتنظيمات المتواجدة والعاملة
فى المجتمعات العربية بصفة عامة، وفى المجتمع الليبي بصفة خاصة:
أولها:
تلك التى أتى على ذكرها ـ فيم سبق ـ وهى التى تكونت بأفكار مستوردة،
وتقليداً للتنظيمات السائدة فى المجتمعات التى سبقتها فى هذا المضمار.
الثانية:
تلك التى وجدت أسباب نشأتها فى معارضة النظام المستبد الحاكم، وهذه
أهدافها تسعى لإسقاط النظام أو الإكتفاء بمناؤته، والتى تستخدم فى هذا
المنوال كافة الوسائل الممكنة فى نشاطاتها التى تتراوح بين التصريحات
الإعلامية وكتابة المناشير والمطبوعات المختلفة، وربما إستخدام
بعضها لوسائل إعلامية أُخرى كالإذاعة المسموعة، وشذ عن ذلك تنظيم
وحيد سعى لإستخدام القوة وهو جبهة الإنقاذ، هذا إذا أستثنينا الجماعة
الليبية المسلحة التى يختلف هيئة تكوينها عن نظيراتها من التنظيمات
الآخرى.
وتختلف أهداف النوع الثاني من الأحزاب والتنظيمات المتواجدة على ساحة
النضال الليبي فى إطار المعارضة البحتة لنظام حكم الإنقلاب العسكري،
بكونها ـ فى غالبها ـ لا تملك برامج سياسية تبعدها عن مرماها الوحيد فى
معارضة النظام القائم.
وهى فى ذلك على العكس من قريناتها من أحزاب وتنظيمات النوع الأول،
القائمة أفكارها وأهدافها على برامج (إيديولوجية) كانت السبب الأساسي
من وراء تأسيسها، كالتنظيمات القومية التى منها ـ على سبيل
المثال ـ حزب البعث، أو ذات النهج الإشتراكي التى تضم
معظم الأحزاب والتنظيمات اليسارية.
من الشرح السابق، يمكن لنا إستخلاص إستنتاج مفاده أن التنظيمات التى تم
تأسيسها على ركائز أفكار إيديولوجية ـ تسعى إلى فرضها على الحكم عند
وصولها للسلطة ـ هى فاقدة لمبرر وجودها خارج نطاق الدول التى تطبق
النهج الديمقراطي.
وفى ذات الوقت، فإن الأحزاب والتنظيمات التى ترتكز معارضتها للأنظمة
الإستبدادية على مبدأ الطعن فى شرعية حكمها، ومدى أهليتها لتولى السلطة
من عدمه، هى الوحيدة التى تملك المبرر لممارسة أنشطتها خارج نطاق وإطار
النهج الديمقراطي المغيب ـ بواسطة القوة القهرية ـ عن كيان المجتمع
المعني فى هذا الخصوص.
بعبارة أُخرى، إن ظهور تنظيمات غير مؤدلجة على ساحة النضال، تقوم
أنشطتها على مناوئة سلطة نظام الإنقلاب العسكري فى ليبيا مثل الجبهة
الوطنية لإنقاذ ليبيا والإتحاد الدستوري الليبي وغيرها
المماثلة لها فى هذا السياق، له ما يبرره ويجيزه.
وذلك لأن مثل هذه التنظيمات تستمد أواصر شرعيتها لممارسة نشاطها
المعارض من قصور أهدافها على المعارضة (الخالصة) لذاتها، والتى
تستهدف تغيير حكم النظام الفاسد، دون إمتلاكها لأجندة إيديولوجية تسعى
لتطبيقها كنموذج للحكم من خلال فرض نفسها كبديل للسلطة المزمع إسقاطها.
ومن ثمة، فإن ذلك يمنحها ـ بجدارة ـ الحق فى ممارسة أنشطتها كتنظيمات
معارضة للنظام الإستبدادي، بإستخدام كافة الأساليب التى يتمكن أدائها
من تحقيق نجاح وصولها للأهداف المنشودة.
وهذا على العكس ـ تماماً ـ من الأحزاب والتنظيمات التى تقوم برامجها
المطروحة على نهجٍ من الفكر الإيديولوجي الذى تسعى من خلال نشاطها
المعارض إلى تطبيقه كأسلوب للحكم؛ فمثل هذه الأحزاب لا تملك شرعية
منطقية لممارسة أنشطتها، إلاّ من خلال النهج الديمقراطي الذى يتيح لها
ولكافة الأحزاب المتنافسة حرية التبارى حول كسب أفراد المجتمع
لصف طرحها وفكرها الراغبة فى تنفيذ نسقه عند الوصول إلى الحكم.
وهى، فى هذا السياق، أحزاب قائمة فى الأساس على فكر إيديولوجي،
يرغب أصحابه فى تطبيقه كنموذج أمثل للحكم ـ من وجهة نظرهم ـ حالما
يتمكنوا من إحكام قبضتهم على مقاليد الحكم والسيطرة على زمامه؛ ومن هذا
المنطلق، فإن معارضتهم فى جوهرها لا تقوم على هدف تغيير النظام
الإستبدادي المسيطر على الحكم، بل أن ذلك يُعد ـ بالنسبة لهم ـ خطوة فى
سبيل تحقيق الهدف الأبعد الذى يرتكز عليه برنامج حزبهم، وهو تطبيق
إيديولوجيتهم المنظورة.
ولعل نظرة ثاقبة على واقع الحال فى بعض بلاد العالم العربي، كفيلة
بمدنا بالبرهان القاطع على صحة هذا التحليل، فأصحاب الفكر القومي أو
اليساري، عندما تمكنوا من الوصول إلى السلطة فى بعض البلاد العربية، لم
تتطرق إلى أذهانهم ـ ولو للحظة واحدة ـ تبنى نهج النموذج الديمقراطي،
وإتاحة الفرصة لكافة الفرقاء للمشاركة فى الحكم من خلال اللجوء
للإقتراع الذى يفصح فيه المواطن عن رغبته الصادقة فى شكل نظام الحكم
وفى نوعية الحكام الذين ينشدهم لتولى أمور السلطة فى بلاده.
بل، على النقيض من ذلك، قامت هذه الأحزاب أو نواتها من الأشخاص الذين
تمكنوا من إسقاط الأنظمة الحاكمة فى بلادهم، بالسيطرة على زمام الحكم
بقبضة حديدية، جرمت قيام تنظيمات المعارضة الآخرى، وحكمت بإستبدادية
مطلقة؛ ولعل تطبيقات تيارات الأنظمة الراديكالية فى ليبيا ومصر
والسودان وسوريا والعراق أصدق أمثلة يمكن للمرء إنتقاءها فى هذا
الخصوص.
** * **
حمى المنافسة بين التنظيمات السياسية المعارضة ..
وهكذا، نصل بهذا الحد من هذه النبذة التوضيحية ـ التى لم يكن لنا بد
ولا مناص من إقحامها على نص موضوع هذا الجزء كما سبق الذكر ـ إلى
نقطتنا الآخيرة التى تدور حول محاولة فهم الطبيعة التنافسية للأحزاب
والتنظيمات المعارضة فى مجتمعات العالم المختلفة، وفى المجتمع الليبي
على وجه الخصوص.
وفى هذا الصدد، قد يظن البعض أن الأهداف المشتركة التى يستظل بمبادئها
أفراد أحزاب وتنظيمات المعارضة كفيلة بأن توحد جهودهم، وتنأ بهم عن
ممارسة مشاعر المنافسة، ولكن هذا ليس بصحيح البتة فى هذا المضمار؛
فالواقع المعاش والتجارب المحيطة تشهد كل يوم على إشتعال حمى المنافسة
بدرجة تتولد معها عداوات
دائمة بين بعض أفراد هذه التنظيمات وبعضهم الآخر.
وقد يجد المرء مبرراً للمنافسة بين أحزاب المعارضة فى المجتمعات التى
يسودها تطبيق النهج الديمقراطي فى الحكم؛ وذلك لأن المنافسة فى هذا
الإطار (بالذات) ليست مطلوبة بشدة فحسب، بل أنها تُشكل عماد قواعد
عملية تداول السلطة فيها.
لكن المستهجن فى هذا المغمار، هو تصاعد ذروة المنافسة إلى أشدها بين
أفراد الأحزاب والتنظيمات الناشطة فى مجال معارضة الأنظمة الإستبدادية،
ونموذجنا المثالي فى ذلك نجده فى وطننا العربي، والحالة الليبية
بالنسبة لنا أوضحها بحكم التخصص والإنتماء.
ومن هنا، إذا وصلنا بفهمنا إلى أن الطبيعة التنافسية الجارية بين
الأحزاب والتنظيمات المعارضة فى دول العالم الذى يطبق النهج
الديمقراطي، هى ظاهرة صحية تتطلبها قواعد اللعبة السياسية على مستوى
الحكم من ناحية، وعلى مستوى القاعدة الشعبية الناخبة لممثليها فى دائرة
الحكم من ناحية أُخرى؛ فإنه لن يستعصى على فهمنا بإن المنافسة بين
الأحزاب والتنظيمات المعارضة للأنظمة الديكتاتورية غير مطلوبة، وغير
صحية البتة. والصحيح فى هذا المنوال، أن تقوم مثل هذه التنظيمات
بالتنسيق فيما بينها، وتقديم العون والمساعدة لبعضها البعض الآخر، حتى
يتحقق الهدف ـ المشترك ـ الذى يسعى الجميع إلى بلوغه.
وحتى إن كنا ـ فى هذا الإطار ـ نستهجن بعض أساليب المنافسة التى تخرج
عن حدود اللياقة وتتطرق لبعض خصوصيات أعضاء وقيادات الأحزاب والتنظيمات
المعارضة فى المجتمعات التى تُطبق دولها النهج الديمقراطي[8]؛
إلاّ أن ذلك يجد ما يبرره لشرعيته المستمدة من كينونة هذه التنظيمات فى
حد ذاته، والذى يُعد ضرورة لنسق تفاعل العملية الديمقراطية المستندة فى
أساسها على هذا التنافس، وذلك من أجل إبراز الأفضل من بينها لإعتلاء
سدة الحكم، ومن ثمة تطبيق برنامجها الذى أجمع الناخبين على إختياره.
حيث تخدم هذه المنافسة المستعرة بين الأحزاب والتنظيمات المتصارعة
الصالح العام لمجتمعاتها، وذلك من خلال الحرص الذى يتملك ذوات الأفراد
فى هذه الأحزاب وقياداتها على تقديم أفضل ماتسعه مجهوداتهم فى خدمة
مصالح المجتمع، وإبتكار أفضل البرامج والمشروعات التى تحقق المصلحة
العامة.
إما على الجانب الآخر فإن صراع الأحزاب والتنظيمات المعارضة فى الدول
غير الديمقراطية، وعلى وجه الخصوص فى البلاد العربية، الخارجة عن ضوابط
أحكام التشريع القانوني (المغيب)، لا يقوم (تنافسها) على تهميش الأطراف
الحزبية والكيانات التنظيمية لبعضها البعض الآخر فحسب، بل أنه يتعداه
إلى العمل على مصادرة وإلغاء وتصفية وجود الطرف الآخر.
والأمثلة فى ذلك كثيرة، ويمكن حصر بعضها فى الأحزاب الشيوعية، والأحزاب
القومية (البعث على سبيل المثال)، التى وصلت للسلطة فى بعض البلاد
العربية، وقامت من موقعها المسيطر على السلطة التنفيذية فى البلاد
بتبنى أساليب التصفية الجسدية والسجن والقهر والتعذيب، وجعلت من هذه
المكاره المنبوذة أدوات أساسية فى ماكنة حكمها، حتى أكتوى بنارها
الكثير من أفراد المجتمع غير المواليين لخطابها الإيديولوجي فى الحكم
بصفة عامة، وأعضاء الأحزاب والتنظيمات الآخرى التى كانت تنافسها فى
ساحة المعارضة على وجه الخصوص.
ومن هنا فإن أحزاب وتنظيمات المعارضة الليبية ـ خاصة تلك التى تتبنى
النهج الإيديولوجي فى فكرها المطروح ـ ليست بإستثناء عن قريناتها فى
مجتمعات الأشقاء العرب، بل أن بعض هذه الأحزاب تُعد أمتداداً وتقليداً
لها. وهذا ماجعلها تناصب العداء للتنظيمات الآخرى العاملة فى ساحة
النضال المعارض المشترك.
لكن الذى يحير فى الأمر، ليس عدائية الأحزاب والتنظيمات القائمة على
الفكر الإيديولوجي للتنظيمات الآخرى التى تنافسها فى معارضة النظام
الإستبدادي؛ بل ذلك العداء الإستفزازي الذى تنفثه بعض تنظيمات المعارضة
غير المؤدلجة إزاء التنظيمات الأخرى التى تشاركها الهدف الواحد المأمول
تحقيقه للجميع.
وفى ختام ما وضحته هذه النبذة عن دينامكية عمل الأحزاب والتنظيمات
المتنافسة، وأسباب وكيفية تكوينها ونشأتها فى المجتمعات البشرية، مع
التركيز على الأحزاب والتنظيمات الليبية؛ أصل ـ بهذا الحد ـ إلى موضوع
هذا الجزء المخصص للحديث عن
التجمع الوطني الديمقراطي الليبي.
** * **
التجمع الوطني الديمقراطي الليبي ..
لقد نشأ تنظيم
التجمع الوطني الديمقراطي الليبي ـ الذى أُعلن عن تأسيسه فى السادس عشر
من سبتمبر 1981م ـ من الإندماج الذى حدث بين فصيلي التجمع الوطني
الليبي، والحركة الوطنية الديمقراطية الليبية.
وقد أئتلف نسيج كيانه العضوي من عناصر ليبية مثقفة يسود بينها الوعي
واليقظة الفكرية والحس الوطني، ومتسمة ـ فى ذات الوقت ـ بإنتماءات
فكرية متنوعة ومختلفة، حيث نجد بينهم من كان ينتمى للجناح اليساري مثل
فاضل المسعودي ونوري الكيخيا؛ وبينهم من ينتمى للتيار
القومي مثل محمود المغربي (رئيس وزراء أول حكومة فى عهد نظام
الإنقلاب العسكري)؛ كما يوجد من بينهم كوادر توقراطية الإنتماء مثل
الحاج محمد رمضان هويسة (رحمه الله) المرتبط بحزب جماعة الأخوان
المسلمين؛ وهناك أيضاً أعضاء ـ من بينهم ـ ليس لهم إنتماءات
إيديولوجية.
** * **
تكوينه ..
فيم يلي لمحة سريعة ومقتضبة عن الكيفية التى تكون بها تنظيم التجمع
الوطني الديمقراطي الليبي، وذلك من خلال تسليط الضوء على بذوره
الأولية التى أخرجت برعمه إلى الحياة، والتى جاء نثرها من تنظيمي
التجمع الوطني الليبي
والحركة الوطنية الديمقراطية
الليبية:
أ.
التجمع الوطني الليبي:
قام بتأسيسه بالعاصمة المصرية فى شهر
سبتمبر 1976م الرائد عمر المحيشي (عضو مجلس الإنقلاب العسكري)،
وذلك بعد مضي عام على لجوئه لمصر أثر فشل إنقلابه العسكري الذى دبره ـ
ضد رفاق الأمس ـ فى شهر أغسطس 1975م.
وإلى جانب عمر المحيشي وآخرين، كان يضم
تنظيم التجمع الوطني الليبي فى عضويته الدكتور محمود المغربي؛
وقد تكرس عمل هذا التنظيم المعارض ـ عقب قيامه ـ فى حدود إصدار مطبوعة
دورية أطلق عليها أسم الجهاد.
ب.
الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية:
تم تأسيسها فى أوآخر عقد السبعينات من
القرن المنصرم، بنواة قيادية تشمل أول رعيل النشطاء فى حقل النضال
الليبي المعارض لحكم نظام الإنقلاب العسكري؛ منهم ـ على سبيل المثال ـ
فاضل المسعودي، ونوري الكيخيا، والدكتور عبد الرحمن
السويحلي وآخرين.
وتبنت هذه الحركة ضمن نهج نشاطها
المعارض إصدار مجلة " صوت ليبيا: صوت الحركة الوطنية الديمقراطية "،
التى صدر العدد الأول منها فى شهر إبريل 1979م، وتكونت أسرة تحريرها من
بعض الشخصيات الليبية البارزة ـ المدرج أسمائها أدناه ـ التى كانت
جميعها تستخدم أسماء حركية بإستثناء الأستاذ فاضل المسعودي الذى
كان يستخدم الأثنان، حيث كان يستعمل تارة أسمه الحقيقي، وتارة أُخرى
يستخدم أسمه الحركي:
-
ياسكو بن دراكو
(فاضل المسعودي).
-
الباهي بن يدر
(نوري الكيخيا).
-
عبد الرحمن الداخل
(الدكتور عبد الرحمن السويحلي).
-
سعيد عمرو مولود.
-
رمضان السلطني.
-
صالح عبد الفتاح.
ولكن دوام الحال من المحال، فقد حدث
شقاق حاد فى سنة 1980م، بين أعضاء تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية
الليبية أدى لإنقسامهم لمجموعتين، أضحت ـ فى أعقابه ـ كل مجموعة
منهما تصدر بمعزلها مجلة التنظيم المشار إليها (صوت ليبيا)، بنفس
الأسم، وبذات الشعار الذى يُشير إلى تنظيم الحركة !. وكان باكورة إنتاج
صوت ليبيا من قبل المجموعتين فى طبعتين تختلف كل منهما فى
مضمونها عن الأخرى، لكنها تحمل على واجهة غلافها رقم تسلسها وهو العدد
التاسع !.
وتوالت الأعداد المزدوجة التى تصدرها
هاتين المجموعتين على منوالها، حتى إنصهرت إحداهما مع تنظيم التجمع
الوطني الليبي ـ الذى جاء على ذكره آنفاً ـ ليكونا معاً، من
خليط مزيجهما تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، الذى
أُعلن عن تأسيسه، كما سلف الذكر، فى السادس عشر من سبتمبر سنة 1981م.
وأستهل التنظيم الجديد نشاطه بإصدار ذات المجلة التى كانت
تصدرها الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية، تحت أسم " صوت التجمع
الوطني الديمقراطي الليبي ".
** * **
موقف التجمع الوطني الديمقراطي الليبي
..
لم يختلف موقف التجمع الوطني
الديمقراطي الليبي تجاه مسألة الشرعية الدستورية التى تبنى الإتحاد
الدستوري الليبي العمل على إقرارها كقاعدة تلتف حولها أنشطة الشخصيات
والتنظيمات العاملة على ساحة النضال ضد حكم نظام الإنقلاب العسكري؛ عن
مواقف التنظيمات الليبية الآخرى التى أنتهجت فى معارضتها سبيل الفكر
الليبرالي، أو كما درج تسميتها فى العالم العربي بالتنظيمات التقدمية.
فقد سيطرت على قيادات هذا التنظيم
فوبيا ـ أنظمة الحكم ـ الملكية، التى كانت ترآها من منظور
الفكر الطليعي الليبرالي، كأنظمة رجعية، تُسيء الوراثة
فيها لحرية الإنسان فى إختيار حكامه الذين يرى فيهم الصلاح، وليس عن
طريق فرض حكام من سلالة ملكية، تتوارث حكم أفراد المجتمع عبر أجياله
المتعاقبة، بغض النظر عن صلاح أفرادها للحكم من عدمه.
وهذا ما جعل من موقف هذا التنظيم تجاه
طرح الإتحاد الدستوري الليبي يأخذ منعطف الرفض التام لتوجهه؛ وذلك بسبب
خلط قياداته ـ فى فهمهم ـ بين العمل على تحقيق هدف إعادة الشرعية
الدستورية لنصابها فى ليبيا، وبين المطالبة بإعادة النظام الملكي كشكل
حكم مفترض.
ولا أستطع هنا، أن أفهم سبب (هذا)
الإلتباس فى الرؤية لدى أصحاب تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي
الليبي حول الطرح الواضح لتوجه الإتحاد الدستوري الليبي، ليجعلهم
يصنفونه فى خانة الكيانات الساعية لإعادة النظام الملكي لحكم ليبيا[9]؛
رغم الخطاب الصريح الواضح الذى تم طرحه فى هذا الصدد من قبل الإتحاد
الدستوري الليبي، والذى يُفصح فيه عن توجهه المرتكز فكره على السعي
لإعادة الشرعية الدستورية لنصابها الطبيعي فى ليبيا، ثم يترك الأمر فيم
بعد للشعب الليبي ليختار (بأجمعه) شكل الحكم الذى يرغبه فى دولته بعد
تلاشى نظام الإنقلاب العسكري المسيطر على السلطة فيها.
فقد فسر قادة تنظيم التجمع الوطني
الديمقراطي الليبي مسألة الإلتفاف حول الملك، ورفع العلم
الذى أقره الأجداد والأباء كرآية معبرة عن جهادهم وإستقلال بلادهم الذى
تم نيله بنضال مرير (مشرف) عبر عقود طويلة من المثابرة والإخلاص
والكفاح؛ بإنهما رمزان واضحان للتعبير عن المطالبة بعودة الملكية.
ومن هنا، تجاهل أصحاب هذا التنظيم
الأمور الثلاثة التالية، التى يكمن فى إستيعابها ـ بالشكل الصحيح ـ
إعفائهم من الوقوع فى مغبة الحكم الجائر السابق، الذى لون رؤيتهم بدرجة
دفعتهم للتبرم لفرصة ـ ربما ـ يكمن فيها الحل الأمثل لقضيتنا العادلة:
-
إن الإلتفاف حول
الملك، لم يكن بغرض إعادة تنصيبه فى مركز هو لم يفقده ـ من الأساس ـ
بحكم الشرعية القانونية التى نص عليها دستور البلاد؛ فكما هو معلوم
للجميع قد تم إقصاء الملك الراحل بواسطة زمرة (مارقة) من ضباط الجيش
الليبي، خرجت عن أصول وأحكام القانون والشرعية الدستورية التى أقرها
الشعب الليبي بأجمعه، وذلك من خلال إستخدامها لوسيلة غير قانونية
(القوة المسلحة)؛ فخانت ـ بفعلها المنبوذ ـ القسم الذى أدته لله
وللوطن عند إنخراطها فى صفوف المؤسسة العسكرية الليبية.
وفى هذا المنوال، لا يملك أحد البتة
إبطال شرعية الملك إدريس لحكم ليبيا، ولا يعنى سيطرة أعضاء هذه
الزمرة على مقاليد السلطة ـ فيها ـ بالقوة القاهرة، سوى خروج عن جادة
الشرعية الدستورية التى تحتم أحكامها على أفراد المجتمع ـ متمثلة فى
قواهم الوطنية الواعية ـ رفض حكم نظام الإنقلاب العسكري غير الشرعي،
والعمل على إسقاطه وإعادة الشرعية الدستورية إلى نصابها الطبيعي فى
البلاد.
ورغم ذلك، فقد تاه عن أذهان أصحاب
تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي بإن القائمين على كيان
الإتحاد الدستوري الليبي لم يبنوا فكرة توجههم على المطالبة بإعادة
النظام الملكي فى حد ذاته، بل أرتكزت رؤيتهم ـ فى هذا المجال ـ حول
إعادة الشرعية الدستورية من خلال المحافل الدولية، التى لا يعقل طرق
بابها فى مثل هذا الأمر دون الإلتفاف حول ممثلها الوحيد، وهو الملك
إدريس السنوسي (رحمه الله)، الذى إختاره الشعب الليبي بأجمعه كملك
لهم، يمارس مهام الحكم بموجب بنود الدستور وقوانينه المشرعة.
ولو أمعنا النظر فى هذا الإطار، فسوف
نجد أن الدستور، قبل ولادته وبزوغه كمشروع تقوم على بنيانه كيان
الدولة الليبية المستقلة، هو عبارة عن توصية (ملزمة) شملها قرار
الإستقلال الصادر عن الهيئة الدولية للأمم المتحدة، والذى ربطته ـ
الهيئة الدولية ـ ورهنت تفعيله على أرض الواقع بضرورة إعداده أولاً،
حتى يدخل قرار الإستقلال إلى حيز التنفيذ وتسرى فاعليته.
إذن، فإعداد الدستور ـ كان ـ هو الشرط
الأساسي لتنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة بشأن منح ليبيا إستقلالها،
والذى تم أمره ـ بعون من الله ـ على مايرام، تحت مراقبة وإشراف
وعناية ورعاية الهيئة الدولية للأمم المتحدة، ليتوج فى نهاية المطاف
بإعلان الإستقلال فى 24 ديسمبر 1951م.
-
إن الملك إدريس (رحمه
الله) قد قبل مباركة تأسيس الإتحاد الدستوري الليبي بناءاً على الفهم
السابق الذى يوجب وجود شخصه لإتمام فكرة إعادة الشرعية الدستورية،
لكونه ممثلها الشرعي الوحيد فى تلك الآونة.
-
إن فكرة وأهداف
الإتحاد الدستوري الليبي التى تأسس على قيمها كيانه، وحرص وألتزم
أعضائه وقيادته على تحقيقها، ليس بينها نية أو تطلع لإحلال تنظيمهم ـ
ومن ثمة ـ أنفسهم كبديل (مباشر) لنظام الإنقلاب العسكري
المنبوذ، أو كعماد لمخطط التسلط على الحكم (بشكل غير مباشر)
عن طريق مشروع إعادة النظام الملكي للسلطة.
فقد كان خطاب الإتحاد الدستوري الليبي
المعلن ـ فى هذا المضمار ـ من خلال منشوراته ومطبوعاته التى تم توزيعها
على الملا، تشرح لفكرته وأهدافه بوضوح جلي لا يقبل لبس ولا تأويل،
وتفصح ـ فى هذا المنوال ـ بجلاء قاطع عن عدم وجود أطماع البتة لدى
أعضاء وقيادة الإتحاد الدستوري الليبي فى الوصول للحكم ـ سواء ـ مباشرة
أو مواربة؛ وأن جل عملهم ينصب فى الهدف الوحيد الذى قام عليه كيان
تنظيمهم، وهو تأدية واجبهم الوطني إزاء بلادهم من خلال السعى لإعادة
الشرعية الدستورية لنصابها الطبيعي فيها.
** * **
غشاوة الرؤية تؤدى لصعوبة الأتفاق ..
إذن، نستخلص ـ مما سبق ذكره ـ بإن رؤية أصحاب تنظيم التجمع الوطني
الديمقراطي الليبي تجاه الإتحاد الدستوري الليبي، قد أكتنفها الربط
بينه وبين عودة الملكية كهدف أوحد لدعواه، والتغاضي عن الهدف الأساسي
لقيامه وعمله فى حقل معارضة نظام الإنقلاب العسكري المنبوذ، المتمثل فى
السعى لإعادة الشرعية الدستورية إلى وضعها المعهود فى ليبيا.
وهذا ما جعل هذه الرؤية ـ المتأثرة ببعض أوجه الفكر الليبرالي واليساري
ـ تصطبغ بالسمتين التاليتين، اللتين كانا لهما بالغ الأثر فى
إلقاء ظلالهما على محاولة مد جسور التقارب والتنسيق والعمل الموحد
لتحقيق الهدف المشترك بين تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي
وبين كيان الإتحاد الدستوري الليبي:
-
إعتبار العلم
الليبي هو رآية المملكة وليس علم ليبيا الذى صممه ممثلي الشعب
فى داخل اللجنة التأسيسية (الوطنية)، وأختاروا ألوانه ذات الرموز
المعبرة عن ـ مراحل ـ حالة الوطن التى مر بها، والمستقبل المشرق الذى
يؤمل تحقيقه تحت عزة هامته الشامخة فوق سماء ليبيا المستقلة.
-
إعتبار الدستور وثيقة
مرتبطة ـ فقط ـ بالنظام الملكي الذى تم الإنقلاب عليه فى سبتمبر
1969م؛ ومن هنا، فإن زوال الدستور ـ من وجهة نظرهم ـ يُعد محصلة
حتمية لزوال النظام الملكي عن الحكم فى ليبيا؛ كما أن الدستور
(المذكور) فى رأيهم، لا يُشكل أي قيمة بالنسبة لحاضر ليبيا أو
مستقبلها.
وقد أدت هذه الغشاوة فى رؤية أصحاب تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي
الليبي ـ التى أرتكزت فى تفكيرها على قوام الوجهتين السابقتين ـ
إلى نسف كافة الجهود التى بُذلت من أجل التعاون والتنسيق بين تنظيمهم
وبين تنظيم الإتحاد الدستوري الليبي من أجل تحقيق الهدف المشترك الذى
يسعى الجميع لبلوغه.
ولهذا فقد جاء اللقاء الذى تم بين قيادات التنظيمين فى صيف عام 1983م[10]
ـ رغم وديته ـ محبط لغرضه الذى تحدد من أجله. فقد أنتهت حوارات هذا
اللقاء المتعددة، التى أستمرت على مدى أمسيتين من ليال شهر رمضان
المبارك، وأخذت مكانها فى منزل الدكتور محمود المغربي بلندن[11]، بدون جدوى تُذكر؛ فقد هيمنت
الرؤية ـ السابقة الذكر ـ على أذهان قيادات تنظيم التجمع الوطني
الديمقراطي الليبي فساقت مجرى الحوارات إلى طريق مسدود.
حيث عبرنا ـ من جانبنا ـ من خلال تلك الحوارات، عن وجهة نظر وفكر
الإتحاد الدستوري الليبي فى التمسك بهدف تحقيق إعادة الشرعية
الدستورية لنصابها الطبيعي فى ليبيا، والتى تقوم ركائزها ـ منطقياً ـ
على دستور البلاد الشرعي الذى وضعه ممثلي الأمة جمعاء. ورفضنا
بشدة فى هذا الخصوص، التصرف حيال بنود ومواد الدستور من قبل أية جهة لا
تملك تفويضاً من الشعب الليبي بأسره، ولا تنوب عنه قانونياً.
وذلك بعد أن لاح لنا من خلال تجاذب أطراف الحديث وتبادل الآراء فى
حوارات ذلك اللقاء، بأنه توجد نية مبيتة لصياغة دستور جديد ترغب قيادات
تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي فى إحلاله كبديل لدستور
الشعب الليبي الأصيل.
وقد حاولنا من خلال تلك الحوارات إقناع قيادات تنظيم التجمع الوطني
الديمقراطي الليبي بإن إجماع أفراد الشعب الليبي هو السبيل الوحيد
لإختيار شكل الحكم المرغوب، وتعديل بنود الدستور القائم أو إعداد دستور
بديل؛ وهذا لا يمكن أن يتحقق إلاّ بعد أن يتمكن الشعب الليبي من
إستعادة إرادته الحرة التى يقرر بها عمل ما يتناسب مع رغباته فى هذا
الصدد.
كما شرحنا لقيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي بإن
العلم الليبي الذى إختاره الشعب عن طريق ممثليه، هو رآية
تعكس روح النضال والكفاح الذى توج فى نهايته بنيل ليبيا لإستقلالها
المشرف، وهو ـ فى هذا المضمار ـ ليس مجرد قطعة من القماش عديمة الصلة
بتراث الشعب الليبي، ولا تعبر أو تعكس روح أصالته المتجذرة فى تاريخه
الذى ولدت من مخاضه دولته المستقلة الحديثة، كمثل
(خرقة)
نظام الإنقلاب العسكري الماسخة، التى تم رفعها على تلة الخراب الذى جره
على البلاد أعضاء زمرة عساكره المارقة.
** * **
وهكذا لم تلتق آرائنا حول النقاط السابقة (الهامة)، مع آراء قيادات
تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي، ولكن ـ فى ذات الوقت ـ
لم ينقطع الأمل فى الإلتقاء وتقريب وجهات النظر، فأستمرت المراسلات
والإتصالات بيننا رغم التباين الواضح فى توجهات كل منا على حدة.
وترجمت قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي قناعاتها
حول وجوب تغيير الدستور الليبي بآخر يضم بين دفتيه وجهات نظرهم الخاصة،
ورؤيتهم الذاتية فى شكل الدستور المرغوب، إلى خطوة عملية على أرض
الواقع فى هذا المغمار.
حيث قام فريقهم بإعداد، ما تم تسميته فى حينه " مشروع دستور جمهورية
ليبيا العربية "، الذى تم نشره فى مجلة صوت ليبيا، التابعة
لتنظيمهم، فى عددها رقم (20) الصادر فى أبريل 1989م.
وقد أحتوت نصوص هذا المشروع على مقدمة[12]
وخمسة أبواب، أفصحت حيثياتها عن إقتراحات تشمل شكل الدولة
ونظام الحكم، وتُفصل للحقوق المختلفة والواجبات
المتفرقة، وتشتمل على الأحكام التى يتم بموجبها تعديل الدستور.
وقد أعاد قادة تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي نشر
وتوزيع مشروع دستورهم لجمهورية ليبيا العربية (المرتقبة) فى كتيب
صغير الحجم لونه أخضر، فى شهر يناير من سنة 1993م[13].
يـتـبـع ..
محمد بن غلبون
28 ديسمبر2007
chairman@libyanconstitutionalunion.net
[1]
الجزء السابع عشر،
تجده على الرابط التالي:
http://www.libya-watanona.com/news/lcu/lc10087a.htm
[2]
مرت الثورة الحضارية الجذرية فى تلك المجتمعات بثلاث تطورات أو تغيرات
أساسية فى صلب نخاع عصابها الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، وذلك على
مراحل متلاحقة، أفرزت فى محصلتها النهائية الشكل الحالي المعروف للدولة
العصرية؛ ويمكن للقارىء إستشفاف فكرة عامة عن هذه التغيرات من خلال
النقاط الموجزة التالية:
-
مهد تغير مفهوم النهج التيوقراطي الذى
كان يُشكل محور وعماد السلطة المتجاذبة فى قواها بين رجال الكنيسة
والحكام من ملوك وأمراء وأباطرة وغيرهم، إلى إيجاد الصيغة
الديمقراطية المناسبة فى الحكم فى داخل كيان تلك المجتمعات ـ عبر
العصور المتعاقبة ـ وأفسح ذلك الطريق أمام إنتقال قوة السلطة
لمواطنيها عبر أصواتهم الإنتخابية، من خلال الفكرة التى تقوم على
ترشيح الأصلح ـ من بينهم ـ لإدارة شئون البلاد، وذلك عبر القنوات
الديمقراطية المتاحة، مما كان له الدور الأكبر فى فرض ضرورة تواجد
هياكل تنظيمية يسعى المواطن من خلال كياناتها وبرامجها المرسومة إلى
تحقيق مصالحه التى يتجانس معه ـ فيها ـ بعض الآخرين.
وهذا الأمر لم يتحقق إلاً بتطور فى الوعى العام لمفهوم تحقيق
المصالح الخاصة للأفراد من أعتمادها على قوة رابطة الدم والتكافل بين
أبناء المنطقة المحلية الواحدة التى ينتمى إليها الأفراد فى داخل تلك
المجتمعات، إلى الإعتماد على قوة كيانات الجماعات المتجانسة التى
تعبر عن طموحات ومصالح أفرادها وأهدافهم المشتركة (الأحزاب
والتنظيمات السياسية، والنقابات والروابط المهنية .. إلخ).
[3]
لم يتم تأسيس جماعة الأخوان المسلمين على أساس سياسي، فقد أراد لها
مؤسسها السيد حسن البنا (رحمه الله) ـ عندما أسسها فى سنة 1928م
بمدينة الإسماعيلية ـ أن تكون جمعية أو جماعة تنشر دعوة إصلاحية
إجتماعية بين الشباب المصري على وجه الخصوص؛ ولكن مع إنتشارها السريع
غير المتوقع ـ بسبب حسن دعواها ورسالتها السامية ـ فقد تمكنت من أخذ
موقع مرموق بين التنظيمات السائدة فى مصر فى تلك الآونة، بل وتعدتها،
سواء على مستوى عدد أعضاءها المنتشرون فى كافة بقاع الأراضي المصرية،
أو فى نشاطاتها العديدة التى كانت تُركز فى تلك الفترة على مساعدة
الفقراء وذوي الحاجة، فصار لها ـ بذلك ـ شعبية كان لها الأثر فى
إرتداءها لعباءة السياسة والعمل السياسي. (يجب لفت النظر هنا، إلى أن
الحديث حول التغير الذى طرأ على برنامج جماعة الأخوان المسلمين
بتفاصيله الكاملة وأسبابه المتعددة، يتطلب من المرء التوسع فى الشرح
المفصل الدقيق؛ وهذا الجزء من المقالة لا يُعد مجاله المناسب، ولا يدخل
فى إطار موضوعه الأساسي، لهذا فقد لجئت للإختصار فى الحدود التى لا تخل
بسياق الموضوع، وفى نفس الوقت تجلى كافة ما يعتريه من إبهام، يتطلب
التوضيح والتفسير).
[4]
فرض
التغير فى الأسلوب الإستعماري نفسه على عقلية الإدارات الحاكمة
لدول الإستعمار القديم، بعد أن أصبح المضي فيه يحقق من الخسائر ـ
البشرية بصفة خاصة ـ ما قد يتعدى المكاسب التى تحققها دولها من خلال
تبنيها لهذا الأسلوب التقليدي الذى فطرت البشرية منذ ولادتها عليه. فقد
تعدت كلفة حروب المنافسة الإستعمارية التى أندلعت بين بعض أقطار دول
العالم الإستعماري وبعضها الآخر خلال الحربين العالميتين ـ بمعزلهما ـ
أقصى حدود التخيل، حيث راح ضحيتهما ما يتجاوز أربعين مليون من بني
أوطانهم؛ ضف على ذلك حرمانها من تحقيق الإستقرار الذى كانت تنشده ـ فى
كثير من دول المستعمرات ـ التى أضجعت ثغور المقاومة الوطنية فيها حلم
تحويلها إلى إقطاعيات تابعة لسلطاتها على طول المدى.
ومن هنا،
فقد منحت الدول الإستعمارية الإستقلال (مباشرة) لمعظم دول مستعمراتها
القديمة، وساعدت ـ فى بعض الحالات ـ من خلال الهيئة الدولية للأمم
المتحدة التى تُسيطر قواها على مقاليد مسارها وقرارها الفاعل، على حصول
مستعمرات أُخرى على إستقلالها، لكن هذا لم يمنعها من تكبيل بعضها
بمعاهدات تكفل لها مواصلة تحقيق بعض المصالح والمنافع المرجوة منها.
[5]
الثورة البلشفية، التى أنفصم عراها فى أكتوبر من سنة 1917م.
[6]
هذا إذا إستثنينا الدول التى يقوم شطر من إقتصادها على قطاع الخدمات
السياحية مثل لبنان وتونس والمغرب ومصر؛ أو يقوم على قطاع تقديم خدمات
الأعمال والنظم البنكية الحرة مثل دولة الإمارات.
[7]
لتقريب الصورة السابقة من مستوى الفهم، دعونا نلقى نظرة على مجتمعات
الدول الأوروبية التى سادها الوعي والإستقرار منذ نهاية الحرب العالمية
الثانية، ونضجت فكرة توحدها تحت ظل منظومة إقتصادية (ليست قومية)، إلاّ
أنه لم يتم تكوين هذا الهيكل الوحدوي (السوق الأوروبية المشتركة)
بالشكل الموضوعي والواقعي سوى فى العقدين الآخيرين، ولم يتم ذلك
بالإنضمام الكامل لكافة دول المنطقة فى دفعة واحدة، بل جرت عملية
إنضمامها على مراحل متعاقبة، والأدهى من ذلك ـ فى هذا الإطار ـ أن بعض
دول هذه المنطقة الكبرى لم يوافق أفراد شعوبها من خلال الإستطلاعات
العامة على التطبيع الكامل لأوطانهم فى داخل هذه المنظومة الإتحادية
ودستورها الشامل (المقترح).
[8]
تصل حمى المنافسة بين الأحزاب والتنظيمات المتطلعة للوصول للحكم فى
البلاد الديمقراطية إلى حد إستخدام الفضائح الشخصية ضد منافسيهم
حتى يخرجونهم من دائرة المنافسة.
[9]
على الرغم من أنه ليس هناك ما يُعيب المطالبة بإعادة النظام الملكي
لحكم ليبيا بصفة خاصة، أو تبنى مشروع يدعو لإقامة شكل الحكم الملكي فى
أي دولة من دول العالم بصفة عامة؛ فشكل نظام الحكم ـ فى هذا الإطار ـ
ليس هو المعيار الذى يتحدد على أساسه تطبيق الدولة (المعنية) للنهج
الديمقراطي وإقامة رواسي العدل من عدمه؛ فهناك ملكيات فى العالم على
وجه العموم، وفى القارة الأوروبية على وجه الخصوص، تنتهج الديمقراطية
وتقر العدالة، مثل المملكة البريطانية المتحدة، وهناك عشرات الأنظمة
الجمهورية وجماهيرية واحدة تقيم أنظمة دكتاتورية فاسدة.
[10]
ملحق
رقم (1) : مجلة "الدستور" الصادرة في لندن بتاريخ 15 أغسطس 1983 (عدد
رقم 299 )
[11]
إلى جانب ـ المضيف ـ الدكتور محمود المغربي، فقد حضر ذلك اللقاء من
قيادات تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي الليبي كل من فاضل المسعودي
ونوري الكيخيا؛ ومثل الإتحاد الدستوري الليبي فيه ثلاثة من
قيادته كنت وشقيقي هشام ـ الذى تغيب عن حضور حوارات الأمسية الثانية ـ
من بينهم.
[12]
أحتوت المقدمة المذكورة على النص التالي: " وثيقة مشروع الدستور
التى صُيغت لجمهورية ليبيا العربية تأتى رداً على قرارات مارس، وما
يسمى بسياسة الإنفراج من جهة، وإحياءاً لذكرى مرور ثمانية وثلاثون سنة
على إعتماد أول دستور عصري لليبيا فى عهد إستقلالها من جهة أُخرى ".
(أنظر للنسخة المرفقة أدناه
–
ملحق رقم 2)
[13]
الرجاء إيجاد النسخة المرفقة أدناه
(ملحق رقم 3).
|