بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الرابع
عشر
[2]
الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري الليبي
أحمد لنقي ..
كان أحمد لنقي من ضمن مجموعة من الأصدقاء القدماء الذين نشأت
صداقتي بهم فى فترة مبكرة من العمر، تعود ـ فى مداها ـ إلى مرحلة الصبا
فى مدينة بنغازي. ولذا، فقد كان من الطبيعي أن أُسارع إلى
إلاتصال به، ومن ثمة القيام بزيارته فى منزله بمدينة لندن ـ بعد
أن إختارها مكاناً لإقامته ـ وذلك من أجل شرح فكرة وأهداف الإتحاد
الدستوري الليبي، ودعوته للإنضمام لكيانه.
تكرر المشهد، فى زيارتي لـ أحمد لنقي، مثلما قدر له ـ من قبل ـ
مع العديد من الأصدقاء الذين ألتقيتهم فى فترة الإعلان والتعريف
بالإتحاد الدستوري الليبي وبفكرته وأهدافه المأمولة. حيث إستمع ـ
لنقي ـ لشرحي بإهتمام بالغ، وعبر على الفور، عن إعجابه بالفكرة
التى يقوم على أساسها الإتحاد الدستوري الليبي وبإهدافه المنشودة؛ لكنه
فى ذات الوقت، إعتذر عن إمكانية الإنضمام لنشاطاته المقترحة !.
** * **
قال لي أحمد لنقي فى مجمل ـ معنى ـ تبريره لعدم إمكانيته
الإنضمام إلى الإتحاد الدستوري الليبي، بإن ذلك يرجع لإنهماكه ـ حينذاك
ـ بتفعيل نشاط جماعته التى ألفها من أجل إتباع منهج الطريقة
الخليلية[1].
فهو فى غاية الإنهماك والإستغراق بكامل أحاسيسه وحواسه فى العمل على
توسيع قاعدة جماعته فى الطريقة الخليلية، من خلال الترويج لها ونشرها
بين أفراد الجالية الليبية فى بريطانيا وبعض دول المهجر الأخرى. وهذا ـ
بطبيعته ـ يتطلب منه تكريس جل وقته وما تسعه طاقته من جهد لتحقيق هذا
الهدف المرصود.
وتابع قائلاً، بإنه ليس فى نيته على الإطلاق، فى هذا الخصوص، أن يكون
له أي إرتباط بالتوجهات السياسية للمعارضة الليبية المنتشرة فى الخارج،
وذلك لأن طبيعة توجهه الذى تبناه من خلال الطريقة الخليلية، يُعد توجه
ديني ـ صوفي ـ لا علاقة له بالمجريات السياسية التى تخوض فيها تنظيمات
المعارضة الليبية. ولهذا فهو يُفضل الإبتعاد عن المشاركة فى أية نشاطات
من هذه الصبغة حتى لا يُعرض نفسه ورفاقه لمخاطر المواجهة مع النظام
الحاكم فى ليبيا، هذا من جانب.
غير أنه، إستطرد قائلاً، بإن إقتناعه بصواب فكرة الإتحاد الدستوري
الليبي، ويقينه بصحة توجه فكرته، إضافة
للمحبة الصادقة التى يكنها للملك إدريس، والتى تشربها من جده
يوسف لنقي]2]،
تملىء عليه وتجبره كواجب وطني، على تقديم المساعدة المالية لدعم
نشاطاته المرسومة من أمواله الخاصة، وهذا أضعف الإيمان.
وعلى الرغم من أنني كُنت أتمنى أن ينضم هذا الصديق الأَثير لكيان
الإتحاد الدستوري الليبي حتى يقوى من عضده بصلاته الواسعة، إلا إنني
راعيت عذره وإنشغاله بتطوير نشاط جماعته المتمثل فى الطريقة الخليلية.
ومن ناحية أُخرى، فرحت بوعده الكريم الذى قطع فيه على نفسه عهداً
بالمساهمة فى تمويل الإتحاد الدستوري الليبي
من حر ماله، إضافة لمساهمات أُخرى سيقوم بمحاولة جمعها بنفسه من
أقرانه ورفاقه المقتدرون.
** * **
وكما هو الحال مع بعض الشخصيات الليبية التى تم ذكرها فيم سلف من أجزاء
هذه المقالة، ذهبت وعود أحمد لنقي بالمساهمة المالية فى نشاطات
الإتحاد الدستوري الليبي، والعمل على جمع المساهمات من بعض الآخرين
أدراج الرياح.
وبهذا السلوك غير المبرر يكون لنقي قد إنضم لبعض أنفار من
الشخصيات الليبية التى إلتقيتها فى غمار التعريف بفكرة الإتحاد
الدستوري الليبي، والتى عبر أصحابها عن عدم وفائهم بإلتزاماتهم التى
تعهدوا بها، وتبرموا لوعودهم التى قطعوها ـ لي ـ فى قضية لا تحتمل فى خوضها الهزل،
لأنها
تتعدى بجديتها وأهميتها حدود الحسابات الذاتية القاصرة.
** * **
وشاءت الأقدار أن أكون على علم وافى بحقيقة السبب الذى دعى أحمد
لنقي إلى عدم الوفاء
بوعده الذى قطعه على نفسه وتعهد لي بتنفيذه، والذى ـ كان ـ يكمن
فى ريبته من أن تؤدى مساهمته الماليه لدعم نشاطات الإتحاد الدستوري
الليبي إلى إحياء فاعلية الحركة السنوسية من جديد، لتكن منافساً
لكيان جماعته (الطريقة الخليلية)، وهذا ما يُعد من منظوره الخاص
منافسة لا تحتمل الدخول فى غمار معتركها !.
بمعنى آخر، لقد إعتقد أحمد لنقي ومن فى معيته من مريدي الطريقة
الخليلية، إن فى المناداة بالملك إدريس السنوسي رمزاً يمثل
الشرعية الدستورية المهدورة، كأحد أدوات العمل التى يتبناها الإتحاد
الدستوري الليبي فى برنامجه، ويهدف من ورائها إلى إعادة الشرعية
الدستورية إلى نصابها السابق فى البلاد؛ هو فى وجهه الآخر إعادة لنشاط
الحركة السنوسية إلى عهدها الذى كانت عليه فى البلاد.
وهذا بدوره سوف يلقى بظلاله القاتمة على نشاط أية حركة دينية أُخرى
تعمل على نفس المنوال أو ما يشابهه. ويعنى بالتالي، ومن وجهة نظر أصحاب
الطريقة الخليلية، إلى إصابة نشاط جماعتهم
الواعد ـ فى نهاية الأَمر ـ بالشلل والتجمد، فى حالة تحقيق الإتحاد
الدستوري الليبي لأهدافه المنشودة.
ولعل المراقب ـ الخبير ـ المتمرس، صاحب الدراية التاريخية بالشأن
الليبي، سيرى على الفور مدى سذاجة وقصور مثل هذا التصور الذى هيمن
ببساطته وضآلته على تفكير أحمد لنقي وصَحْبه، من أمثال الشيخ حبيب
الصابري، والرائد أحمد بن حليم]3]
فى هذا الخصوص، وجعلهم ـ ليس فقط ـ يقتنعون بوجهته الخاطئة، بل
ويتبنونه كإستراتيجية نافذة أثناء تعاملهم
معي.
لقد إستخدم لنقي ورفاقه ـ أصحاب الطريقة الخليلية ـ كافة الوسائل
المتاحة لديهم، من أجل إبعادي عن المضي قدماً فى تفعيل نشاط الإتحاد
الدستوري الليبي؛ حيث قاموا بإستخدام سياسة الترغيب والترهيب،
التى إمتطى الشيخ حبيب الصابري فيها ـ عند تعامله معي ـ صهوة
اللين والترغيب، واستعمل الرائد أحمد بن حليم وسيلة التهديد
والترهيب !.
فقام الأول بالإستفاضة فى إطلاق وعوده بتنصيبي فى أعلى المراتب
الروحية لطريقتهم الصوفية، بحيث أتولى رئاسة دائرتهم فى بريطانيا فور
إنضمامي لنشاطها المتبع. وأطلق الثاني العنان لتهديداته
النارية، التى لن يُعفيني من جم حممها ـ حسب قوله ـ سوى إنضمامي الفوري
لطريقتهم الصوفية والتخلى عن ممارسة أي نشاط آخر !.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبحت مثاراً لسخريتهم فى مجالسهم
الإجتماعية، التى صاحبت فترة رئاسة أحمد لنقي للجماعة المعنية،
وإمتدت لفترة رئاسة خلفه ونيس التاجوري الذى تولى رئاسة الجماعة
عقب إنتقال أحمد لنقي لمصر، واستمرت حتى فترة رئيسها الحالي سالم
بدر، لتتحول فى عهده إلى حملة شعواء تكتنفها تشنيعات غير واقعية
بسمعتي، من خلال إطلاق بعض الإفترءات الباطلة.
** * **
وهنا، أجد من الجذير بالذكر أن أُعدد للحقائق التى تدحض وجهة
نظر التصور السابق وتفنذه، وذلك حتى لا تحيد أرآئي عن الموضوعية التى
إلتزمتها وجعلتها نصاباً قائماً منذ أن شرعت فى كتابة هذه المقالة
التوثيقية، هذا من جانب.
إما من الجانب الآخر، فإن هذه الحقائق ـ التى سيتم
الحديث عنها فيم سيلي ـ تتداخل وتشترك مع وجهة نظر أُخرى تبنتها جماعة
الأخوان المسلمون فى نفس المضمار، وفى ظروف مشابهة، سوف أشرح
لها فى الجزء القادم من هذه المقالة، وذلك عندما يتم الحديث عن الحاج
عبد الله بوسن.
** * **
وهكذا، فإنه يكمن فى هذه الحقائق ـ التى سيتم إدراجها فيم يلي ـ
جوهر الوقائع التاريخية الدامغة، التى تُبطل وجهة التصور السابق، الذى
إنتهجه أحمد لنقي وصَحْبه إزاء توجه الإتحاد الدستوري الليبي، والذى
أنبعث من خشيتهم وخوفهم من نشاطه الهادف إلى إعادة الشرعية الدستورية
تحت زعامة رمزها وممثلها الملك إدريس السنوسي، لأنه يُشكل ـ من
وجهة نظرهم ـ تهديداً لوجود كيان جماعتهم الصوفية، ويبدد الأمل فى
تحقيق أحلامهم وطموحاتهم المعقودة، من خلال فتحه الباب على مصراعيه
لإحياء نشاط وعمل الحركة السنوسية، ذلك الند الذى لا يمكن
مجارته فى هذا الإطار !.
ولأترك القارىء مع هذه الحقائق، الكامن فى جوهرها الأسباب التى
توضح ـ له ـ بجلاء عدم صحة هذا التصور الذى لم يستند فى طرحه على أدنى
أسس المنطق أو التفكير العقلاني:
1.
إن الحركة السنوسية تختلف فى تكوينها وهدفها الذى أُنشئت من أجله عن
معظم أوجه تكوين وأهداف الحركات والجماعات الدينية السائدة فى العالم
العربي. وبغض النظر ـ هنا ـ عن أوجه الشبه المحدودة التى تجمعها ببعض
حركات التأصيل والتحرير التى سادت بعض مناطق العالم العربي فى القرن
التاسع عشر، مثل الوهابية فى الجزيرة العربية، والمهدية
فى السودان، والتى تطلعت جميعها للتاصيل الإسلامي، والعمل على توحيد
العشائر والقبائل المتنافرة فى إطار دولة واحدة، وتحفيز نعرة مقاومة
الإستعمار بين أفراد شعوبها.
إلاّ أن الدارس المهتم ـ والمتمحص ـ سيجد أن نشاط الحركة السنوسية، عند
إمعان النظر فيه، يختلف عن كافة أنشطة معظم الحركات الدينية التى سادت
المنطقة العربية خلال القرنين المنصرمين، من جانب أنه يهدف ويدور
ويتركز حول تنوير وتوعية أفراد المجتمع الليبي بشئون دينهم، من أجل
مساعدتهم على إقامة وبناء كيان إجتماعي قويم تسوده وتنظمه أسس وشرع
التعاليم الإسلامية السامية، دون التطلع من وراء ذلك إلى دورٍ
قيادي فى إطار الدولة الشاملة، الذى تمثله فى هذا السياق دولة
الإستقلال، وبصرف النظر ـ فى هذا الخصوص ـ عن دورها الرائد فى قيادة
الجهاد وتحقيق الإستقلال ذاته للدولة المعنية.
2.
إن الحركة السنوسية التى قامت أسسها على تنوير وتوعية أفراد المجتمع
الليبي بأصول دينهم الحنيف، قد أدت دورها ـ هذا ـ على أكمل وجه فى
الفترة الواقعة بين نشأتها على يد السيد محمد علي السنوسي فى
النصف الآخير من القرن التاسع عشر وحتى وقوع الإحتلال الإيطالي فى سنة
1911م. حيث أزهرت ثمار جهودها فى هذا الخصوص بإلتفاف إتباعها حول لواء
رآية الجهاد التى رفعتها عندما وطأت أقدام جحافل العدو الإيطالي الغاشم
تراب الوطن.
ولم يكن للحركة السنوسية ـ فى هذا الصدد ـ أن تحقق ذلك الإلتفاف من
حولها بدون نجاحها أولاً، فى نشر الوعي واليقظة الدينية بين الكثير من
أفراد المجتمع الليبي بهدى وإشراف مؤسسها، وأبناءه من بعده ـ على مدى
عقود طويلة ـ ليزاح بفضلها، عن صدورهم، تلك الغشاوة التى خلفها العهد
التركي فى النفوس أثناء فترة حكمه الآخيرة للبلاد، والتى تسبب ـ فى
غضونها ـ فى تشويه المفهوم الديني النقي للإسلام فى أفئدتهم.
3.
لقد آل نشاط الحركة السنوسية الريادي إلى التلاشى بعد أن تكلل جهاد
الليبيون تحت زعامتها بنيل إستقلالهم، وذلك برغبة من الملك ـ الراحل ـ
إدريس السنوسي، فرضتها عليه أصول منطق الواقع عند توليه لزمام
حكم البلاد فى ديسمبر 1951م. حيث ارتأى فى هذا الصدد إنتفاء ضرورة
وجودها لسببين:
·
عدم وجود حاجة لدورها الذى إضطلعت به أبان فترة الجهاد ضد الإحتلال
الإيطالي لأرض الوطن، والذى قامت فيه بالتحفيز للجهاد عن طريق إذكاء
نعرة المقاومة الدينية بين صفوف المتحمسين من أعضاء قاعدتها العريضة،
التى كونتها من بين أبناء بقاع مختلفة من البلاد عبر العقود التالية
لتأسيسها، لتصنع منهم
مجاهدون
يقاتلون من أجل إجلاء جند العدو الأجنبي
المحتل لربوع بلادهم؛ وبمجرد تكلل
كفاحهم بالحصول على الإستقلال، إنتفت الحاجة لدور الحركة السنوسية فى
التحفيز على الجهاد.
·
كما فرض واقع الحال، من ناحية أُخرى، إلى إنتفاء ضرورة إضطلاعها بأمر
التوعية الدينية التى قامت بمهامها ـ فى أثناء وقبل ـ فترة الجهاد ضد
الإحتلال الأجنبي، والذى توجت جهودها خلالها بفلاح منقطع النظير.
والخلاصة، فى هذا الصدد، إنه لم يعُد هناك ضرورة منطقية لوجود الحركة
السنوسية[4]
بعد أن نالت ليبيا إستقلالها، وإنتقلت بمجتمعها ـ المتباين ـ لنظام
الدولة العصرية، الحاضنة فى هيكلها لكافة بنيان التركيبة السكانية
فيها، والشاملة لكافة التشريعات المنظمة لكيان أركانها المختلفة.
فقد أصبحت التوعية الدينية والأشراف عليها، بعد الإستقلال، من مهام
الدولة الجديدة عبر قنواتها الإدارية المتخصصة فى هذا الشأن (إدارة
الأوقاف، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الإعلام).
ولا يجد المرء ـ فى هذا المضمار ـ إلاّ أن ينظر بكل إكبار وتقدير للملك
إدريس السنوسي (رحمه الله) على مدى ثقب رؤيته، وبعد نظره المدرب
بوعي سياسي عميق، لكونه قد صرف النظر عن خلق دور للحركة السنوسية فى
داخل الدولة الليبية بعد الإستقلال.
ولعل ذلك كان السبب وراء عدم تحول هذه الحركة إلى كتلة نخبوية أو حزب
سياسي ـ مدلل ـ له الأثرة فى الإستحواذ على بعض أوجه السلطة والنفوذ فى
داخل إطار الدولة الليبية حديثة الإستقلال، مقارنة بما حدث فى كثير من
دول المستعمرات القديمة، التى قادتها حركات ـ دينية وغير دينية ـ فى
مرحلة الكفاح من أجل الحصول على الإستقلال، وتحولت هذه الحركات
الطليعية فى فترة ما بعد الإستقلال إلى أحزاب تُهيمن على الحكم بواقع
سطوة تاريخها الكفاحي.
وربما يستبعد البعض حدوث مثل هذا السيناريو ـ فى ليبيا ـ فى ظل
الدستور الذى سُن لأجل أن يقنن لعملية ممارسة السلطة، ويضمن
ببنود لوائحة المشرعة الفصل بين الفروع الثلاث الأساسية فيها.
وهنا، لا يسع المرء، إلاّ أن يحتكم فى رده على مثل هذا الإستبعاد
بواقع الأمر المعاش فى عالمنا المعاصر، الذى تكرر فيه حدوث مثل هذا
السيناريو لحركات أعتلت قمة هرم السلطة فى بلادها برخصة إضطلاعها فى
عهد الإستعمار بقيادة أفراد شعوبها لمقاومة الإحتلال،
وتحقيق إستقلالها ( جبهة التحرير فى
الجزائر، من باب المثال).
خاصة إذا علمنا أن أَمارات التخلف الفكري والثقافي، وإنعدام الوعي
السياسي هو سمة تشترك
فى إقتنائها معظم دول المستعمرات القديمة، التى لم تخرج من معاركها
الضارية ضد الإستعمار إلاّ بحريتها الوطنية، مجردة فى ذات الوقت ـ فى
عرى واضح ـ من الوعى السياسي والثقافى، الذى تحتاج بشدة بالغة إلى
كسائه لتحقيق مشروع النهضة الشاملة، المقدمة على بنائها فى مرحلة ما
بعد الإستقلال.
بمعنى آخر، إن حالة التخلف السياسي والثقافي، وإنعدام الوعي بين شعوب
تلك الدول ـ بشكل عام ـ لم يكن السبب فى قفز المجموعات التى قادت حركة
مقاومة قوى الإستعمار إلى سدة الحكم فى بداية عهد الإستقلال فحسب، بل
أنه المسئول الأول عن جعلها فريسة سهلة لإختلال موازين الحكم فيها ـ
بقدر ـ دفع إلى تسرب الفساد والمحسوبية إلى نظمها، وأدى بالتالي إلى
فتح الأبواب على مصراعيها لعتيان موجة حكم الأنظمة العسكرية، التى وجد
صغار ضباط جيوشها فرصتهم السانحة للقيام بإنقلاباتهم غير الشرعية،
والإنقضاض على دفة الحكم فى تلك البلاد، فى مغامرة محسوبة، يقودهم
النجاح فيها إلى تحقيق الثراء والشهرة، والإستحواذ على صولجان قوة
السلطة.
وفى المقابل، نجد أن مثل هذا الأمر لا يمكن له الحدوث على أرض الواقع
فى الدول التى تتسلح شعوبها بالوعى السياسي الكافى، حيث يردع وعيهم
السياسي بحقوقهم الشرعية، ومقدراتهم الوطنية، أية زمرة من ضباط الجيش
تسول لها أوهامها القيام بمغامرة عسكرية لقلب نظام الحكم.
بمعنى، إن هذه الشعوب الواعية تقف بالمرصاد لقراصنة الإنقلابات
العسكرية، وتُعيدهم على الفور لثكناتهم التى انطلقوا منها لتنفيذ
مؤامرتهم الكريهة، وتحاكمهم، وتنزل بهم العقاب المناسب، جزاء تعديهم ـ
بطرق غير مشروعة ـ على حقوقها الشرعية، ولعل ماحدث فى
اليونان
أبان عقد السبعينات
من القرن المنصرم خير
مثال
يمكن الإشارة إليه فى هذا الخصوص.
** * **
وعودة إلى جوهر الموضوع الأساسي، المتعلق بخشية أحمد لنقي وصحبه فى
الطريقة الخليلية من منافسة الحركة السنوسية لنشاط جماعتهم إذا عاد
الملك إدريس إلى حكم البلاد !.
لعل القارىء فى هذا الصدد يكون قد ألم بالحقائق السالفة الذكر،
والتى توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الحركة السنوسية فى عهد الحكم
الملكي، لم تكن فى يوم مصدر تهديد لأية حركة دينية
أُخرى تواجدت على أرض ليبيا. وذلك للأسباب
التالية:
·
إن نشاط الحركة السنوسية السابق على الإستقلال قد توقفت فاعليته عن
الممارسة والتطبيق فى أرض الواقع بعد الإستقلال مباشرة، وذلك لإنتفاء
الحاجة إليه، كما سبق الشرح أعلاه. ولم يبق ـ منها فى هذا الخصوص ـ على
أرض الواقع سوى رمزها التراثي المتمثل فى
بعض زواياها وعلى رأسها زاوية الجغبوب[5].
حيث تخلت السنوسية ـ فى هذا السياق ـ عن دورها السابق كحركة
تأصيلية وقيادية، ليستمر وجودها كطريقة صوفية، مثلها فى ذلك،
مثل بقية الطرق الصوفية الآخرى المنتشرة فى ليبيا، والتى تواجدت على
أرضها لفترة طويلة من الزمان، حافظت فى أثنائها على هويتها الإسلامية.
·
إن الملك إدريس
السنوسي (رحمه الله) لم يكن فى يوم حجر عثرة أو عائق أمام أية حركة
دينية يقوم نشاطها على الشئون الدينية البحثة، والدليل على ذلك يمكن
الإستدلال عليه بوضوح من خلال نشاط العديد
من الجماعات والطرق الصوفية المنتشرة فى ليبيا قبل الإستقلال وبعده
(على سبيل المثال: الرفاعية، والمدنية، والعيساوية، والقادرية،
والدرقاوية، والسلامية، والعروسية).
** * **
وهكذا، بعد فترة لاحقة، كان أحمد لنقي قد إنضم وصحبه إلى الجبهة
الوطنية لإنقاذ ليبيا ! ليصبح فى وقت قصير من أبرز أعضائها، وليثمر
تقاربه الحميم مع أمينها السابق محمد المقريف بمصاهرة تزوجت فيها أبنته
من أبن المقريف.
يتبع ..
محمد بن غلبون
1 مارس 2007
chairman@libyanconstitutionalunion.net
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
الخليلية:
طريقة صوفية تأسست بكفر النحال التابع لقرية الزقازيق بمصر، فى
بداية القرن العشرين. وكسبت أسم مؤسسها السيد محمد أبو خليل
(رحمه الله). وأنتقلت إلى ليبيا عن طريق البعثات التعليمية والدينية
من المدرسين وأئمة المساجد
الذين إستعانت بهم الحكومة الليبية بعد الإستقلال.
[2]
يُعد يوسف لنقي من الشخصيات البارزة والمعروفة فى مدينة بنغازي،
وهو من أشهر عمداء بلديتها فى فترة الحكم الملكي. وقد كان أحمد لنقي ـ
فى هذا الصدد ـ يفتخر بالعلاقة الروحية والمعنوية التى كانت تربط
أُسرته بالملك إدريس، والتى تعود جذورها إلى زمن جده.
[3]
أحد كبار أعضاء ما يسمى بتنظيم الضباط الوحدويون الأحرار، ورئيس
المحكمة العسكرية فى نظام الإنقلاب.
[4]
لكن
ذلك لم يمنع من إستمرارها كطريقة صوفية، كمثل بقية الطرق الصوفية
المختلفة الآخرى التى كانت تعج بها ليبيا منذ أزمنة طويلة سابقة.
[5]
قام القذافى فى سنة 1984 بهدم هذه الزاوية العريقة، وحرق جميع الكتب
والوثائق النادرة والقيمة التى كانت تحتويها، ونبش قبر مؤسسها السيد
محمد علي السنوسي، ونقل جثمانه لجهة غير معلومة.
|