مقدمة الطبعة الثالثة
كان أول لقاء لي بالملك ادريس (رحمه الله) في محل إقامته بالقاهرة في
شهر أغسطس 1981 حيث تبرأت مما قام به السفهاء ضده وجددت له البيعة
أصالة عن نفسي ونيابة عن أهلي وزملائي، واستأذنته في تأسيس وإعلان
الاتحاد الدستوري الليبي.
ونحن إنما أسسنا الاتحاد الدستوري الليبي لنعمل
من خلاله على تحقيق هدف نبع من أعماق التجربة الوطنية الليبية، حددناه
بوضوح تام، وهو إعادة الحياة الدستورية إلى بلادنا سعياً إلى تفادي
مخاطر الانقلابات العسكرية المتوالية، والحروب الأهلية، والتصادمات
القبلية والجهوية، واحتمالات التقسيم والانفصال.
فسرنا على ثلاثة خطوط متوازية؛ أحدها مناداتنا برفع علم الاستقلال في
وجه خرقة الانقلاب، حيث اتخذنا منذ البداية في 1981 من العلم الليبي
الأصيل شعاراً للاتحاد الدستوري وأعدناه إلى أذهان مواطنينا ولفتنا
انتباههم إلى الخدعة الرامية إلى ربط ذلك العلم بشكل محدد من أشكال
الحكم، أو بفترة زمنية معينة من عمر الدولة الليبية، غير آبهين بالحجج
الواهية التي حاول البعض استخدامها لعرقلة حملتنا تلك. وبحمد الله لم
يعد اليوم هناك أي خلاف على كونه شعار ليبيا الوطني الوحيد ورمزها الذي
يجب المحافظة عليه أياً كان شكل نظام الحكم فيها منذ أن تلقفته أيادي
ثوار 17 فبراير ورسّخته دمائهم الزكية إلى الأبد.
والخط الثاني والأكثر تعقيداً تمثّل في طرح القضية الدستورية الجوهرية،
فنحن رأينا دوماً أن الدستور الليبي الذي صاغه ممثلوا الشعب قبيل نيل
الاستقلال سنة 1951 تحت اشراف هيئة الأمم المتحدة وبالتعاون معها، هو
القاعدة الوطنية التي ينبغي اللجوء إليها لتوفير البداية الصحيحة
للمسيرة الحضارية المرجوّة، وهو صمام الأمان الضامن في المرحلة
الانتقالية بعد سقوط القذافي.
أما الخط الثالث فقد كان إعادة تسليط الضوء (الذي حجبته أجهزة الدعاية
الانقلابية)
على الدور التاريخي الرائد الذى نهض به الملك إدريس السنوسي في إقامة
وتوحيد أول دولة ليبية وطنية مستقلة، وذلك لرد الإعتبار إليه وإنصافه
وإيفائه حقه من الإكبار والتقدير مع دعوة مختلف تيارات المعارضة
الليبية إلى الالتفاف حول رايته التى أستمدت شرعيتها من الإرادة
الشعبية الحرة على مرأى ومسمع من العالم كله قبل أن يصادر الإنقلاب
حريات الشعب كلها .
وحسبنا أن ذلك العمل أسهل أجزاء مهمتنا حيث أن جهاد الملك وفضله ومآثره
الوطنية واضحة بذاتها ولا سبيل إلى إنكارها متى أزيلت الغشاوة التى
كثفتها عليها أبواق دعاية الإنقلاب ، ولكننا لم نلبث أن أكتشفنا خطأ
حساباتنا، إذ وجدنا أن المسألة أصعب مما كنا نتوقع . وكثيراً ما تملكنا
الشعور بالإحباط واليأس من إمكانية إنجاز هذه المهمة حتى أننا ذهبنا
إلى الظن بأن وسائل الإعلام التى يديرها القذافي ربما امتازت بقدر من
الكفاءة لم ندركه من قبل لجهة عمق تأثيرها على عقلية الطليعة المثقفة
فى مجتمعنا، والتي كانت غارقة في أفكارها وشعاراتها بعيداً عن القاعدة
الشعبية وتراثها فقد كان يطغى عليها وقتئذ ما كان يسمّى"بالفكر
التقدمي"، والإيديولوجيات الواردة من خارج حدود الوطن
والتي كانت تلتقي في وصم الملك وعهد الاستقلال بوصمة "الرجعية" الرائجة
في تلكم الأيام.
ولم
تتضح الرؤية من هذه الناحية إلاَّ بعد أن أطلعني سمو الأمير الحسن
الرضا السنوسي ولي عهد المملكة الليبية (رحمه الله)
على ما صارحه به
الرئيس جون كينيدي في البيت الأبيض سنة 1962 من رغبة الولايات المتحدة
الأمريكية في التخلص من الملك إدريس لتعارض وجوده مع مصالحها في ليبيا.
فعندئذ فقط عرفنا اننا لم نكن نواجه وسائل إعلام القذافي وحدها ولا
أعجزتنا كفاءتها ولا قدرتها ، بل كنا نتعثر في حقل ألغام الدعاية
المغرضة التى زرعها محترفو الأجهزة الأمريكية خلال الستينات . فهم
بعدما أخفقوا في العثور على من يتعاون معهم لخلع الملك إدريس بلا
إنقلاب عسكري ، أخذوا يتفننون في أساليب خلق البلبلة وبث الشكوك حوله
ريثما يتهيأ المناخ والظروف المناسبة لصنع الإنقلاب المبيّت ضده .
وبإدخال بعض التعديل على كيفية تناولنا وعرضنا للموضوع وفقنا ولله
الحمد في تبديد العتمة إلى حد بعيد . ونحن إذ نعتز بهذا التوفيق فإننا
نأسف لعدم ظهور نتائج جهودنا إلا بعد رحيل الملك. ولقد كان الإتحاد
الدستوري هو التنظيم الوحيد بين فصائل المعارضة الليبية الذي جدد له
البيعة في أثناء حياته، وذلك شرف كنا نود بكل صدق وإخلاص أن يشاركنا
فيه الجميع .
وقد
كان نشرنا لهذا الكتاب خطوة من خطوات جهدنا لتحقيق تلك الغاية،
فما أن نمى إلى علمنا أن المستر إريك دي كاندول كتب كتابا قيّماً عن
حياة الملك ادريس وعصره وأنه لم يجد دار نشر تقوم بنشر وتوزيع الكتاب،
وأنه قد اضطرّ إلى نشره بلغته الأصلية في طبعة محدودة قوامها 250 نسخة
موّلها بصفة شخصية وفاءً لصديقه الملك الراحل حتى بادرنا بالاتصال به
لبحث سبل التعاون في تحقيق الغاية، فوصلنا إلى تفاهم نقوم بموجبه
بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ونشره باللغتين العربية والانجليزية
مع إذن بإضافة هوامش ووثائق وملحقات وصور، وتعهد من طرفنا بعدم المساس
بالمادة التي وضعها الكاتب في متن الكتاب.
وقام بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ببراعة فائقة زميلي في الاتحاد
الدستوري الليبي الأستاذ
محمد حسين القزيري (رحمه الله)، وتكفلت أنا
وشقيقي هشام بإضافة الوثائق والملاحق والهوامش التوضيحية، مع اغنائه
بمجوعة من الصور تضاف إلى الصورتين اللتين أدرجها الكاتب في أصل
الكتاب، وتمويل طباعة ونشر الطبعة الأولى بمساهمة مالية من شقيقي علي
(رحمه الله)، وتوزيعه كهدايا مجانية تكون الأولوية فيها للمكتبات
العالمية العامة، ومكتبات الجامعات العربية والعالمية ليكون في متناول
البحّاث وكتبة التاريخ، ثم على المواطنين الليبيين في داخل ليبيا في
حدود ما تسمح به الظروف الأمنية في تلك الحقبة، وكذلك توزيعه على نطاق
واسع بين الليبيين المهاجرين في أوروبا وأمريكا والعالم العربي. ثم
ساهم مع ثلاثتنا في نفقات نشر وتوزيع الطبعة الثانية كهدايا مجانية
كذلك من خارج الاتحاد الدستوري الليبي كل من السيد محمد احمد النايض
والسيد محمد ابراهيم السوسي.
والآن وبعد ان استعاد الشعب الليبي حريته رأينا ضرورة إعادة نشر هذا
الكتاب القيّم ووضعه في متناول أكبر عدد من القراء الليبيين في داخل
ليبيا، وأن ذلك لن يتحقق إلا عن طريق نشره بصورة تجارية تضمن توسيع
دائرة انتشاره، لتعميم الفائدة ولإحياء ذكرى رجل قاسى من الظلم والجحود
لمدة طويلة، وكذلك وفاءً لرجال من حوله ضحوا وساهموا في ولادة وبناء
الدولة الليبية الحديثة، قبل أن يغمطهم الانقلاب حقهم. وقد أهديت ريع
هذه الطبعة العربية الثالثة من الكتاب إلى الأستاذ محمد المزوغي رئيس
تحرير صحيفة "الكلمة" لدعم هذه الصحيفة المتميزة.
محمد بن غلبون
رئيس الاتحاد الدستوري الليبي
chairman@libyanconstitutionalunion.org