من أجل إعادة نظر بالتاريخ الليبي
الدستور والشبح البديل
محمد بن غلبون
*
"الحيــاة" : 4 يناير 1993
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية اجتاحت أفريقيا وآسيا وأمريكا
اللاتينية على الأخص موجة الإنقلابات العسكرية العاتية في سياق التنافس
المحموم بين الكتلتين الغربية والشرقية على توسيع مناطق النفوذ
وإستغلال ثروات العالم . وأنعكس ذلك خصوصاً في البلدان ذات الموقع
الإستراتيجي المهم أو الغنية بمواردها الطبيعية المعروفة أو المتوقعة .
وقد أصبحت هذه الظاهرة آفة العصر بالنسبة لشعوب عدة ظلت تعانى من
آثارها المدمرة والطويلة الامد.
والحركة الإنقلابية التى جرت في ليبيا (ونجحت في الإستيلاء على السلطة
بسهولة خارقة) في أيلول (سبتمبر) 1969 لا تعدو كونها واحدة من حلقات
ذلك المسلسل الرهيب .
ونحن أنما أسسنا "الإتحاد الدستوري الليبي" في عام 1981 ، لنعمل
من خلاله على تحقيق هدف نبع من أعماق التجربة الوطنية ، وحددناه بوضوح
كامل ، وهو إعادة الحياة الدستورية إلى بلادنا سعياً إلى تفادي
مخاطر الإنقلابات العسكرية المتوالية التى أبتليت بها شعوب أُخرى حتى
وجدت نفسها في شبه حلقة مفرغة يتعذر الخروج منها .
لقد رأينا لشعبنا أن يواكب المسيرة الحضارية في إطار دستوري يوفر
الضوابط التى تحكم عمل مؤسسات الدولة وعلاقاتها وصلاحياتها ويكفل
للمواطن الليبي حقه الطبيعي في أن يعيش في بلاده حياة حرة آمنة كريمة .
فهل هذا مطلب خيالي يتجاوز حدود المعقول ؟
فنحن حاولنا السير على ثلاثة خطوط متوازية . كان أولها إعادة
تسليط الضوء (الذى حجبته أجهزة الدعاية الإنقلابية) على الدور التاريخي
الرائد الذى نهض به الملك إدريس السنوسي في إقامة وتوحيد أول
دولة ليبية وطنية مستقلة ، وذلك لرد الإعتبار إليه وإنصافه
وإيفائه حقه من الإكبار والتقدير مع دعوة مختلف تيارات المعارضة
الليبية إلى الالتفاف حول رايته التى أستمدت شرعيتها من الإرادة
الشعبية الحرة على مرأى ومسمع من العالم كله قبل أن يصادر الإنقلاب
حريات الشعب كلها .
وحسبنا أن ذلك العمل أسهل أجزاء مهمتنا حيث أن جهاد الملك وفضله ومأثره
الوطنية واضحة بذاتها ولا سبيل إلى إنكارها متى أزيلت الغشاوة التى
كثففتها عليها أبواق دعاية الإنقلاب ، ولكننا لم نلبث أن أكتشفنا خطأ
حساباتنا ، إذ وجدنا أن المسألة أصعب مما كنا نتوقع . وكثيراً ما
تملكنا الشعور بالإحباط واليأس من إمكانية إنجاز هذه المهمة حتى أننا
ذهبنا إلى الظن بأن وسائل الإعلام التى يديرها القذافي ربما أمتازت
بقدر من الكفاءة لم ندركه من قبل لجهة عمق تأثيرها على عقلية الطليعة
المثقفة فى مجتمعنا .
ولم تتضح الرؤية من هذه الناحية إلاَّ بعد أن أطلعني سمو الأمير
الحسن الرضا السنوسي ولي عهد المملكة الليبية على ما صارحه به
الرئيس جون كينيدي في البيت الأبيض سنة 1962 من نية الولايات
المتحدة الأمريكية الاطاحة بالملك إدريس لتعارض وجوده مع مصالحها في
ليبيا . فعندئذ فقط عرفنا اننا لم نكن نواجه وسائل إعلام القذافي وحدها
ولا أعجزتنا كفاءتها ولا قدرتها ، بل كنا نتعثر في حقل ألغام الدعاية
المغرضة التى زرعها محترفو الأجهزة الأمريكية خلال الستينات . فهم
بعدما أخفقوا في العثور على من يتعاون معهم لخلع الملك إدريس بلا
إنقلاب عسكري ، أخذوا يتفننون في أساليب خلق البلبلة وبث الشكوك حوله
ريثما يتهيأ المناخ والظروف المناسبة لصنع الإنقلاب المبيت ضده .
وبإدخال بعض التعديل على كيفية تناولنا وعرضنا للموضوع ، وفقنا في
تبديد العتمة إلى حد بعيد . ونحن إذ نعتز بهذا التوفيق فأننا نأسف لعدم
ظهور نتائج جهودنا إلا بعد رحيل الملك . ولقد كان الإتحاد الدستوري
هو التنظيم الوحيد بين فصائل المعارضة الليبية الذي جدد له البيعة في
أثناء حياته ، وذلك شرف كنا نود بكل صدق وإخلاص أن يشاركنا فيه الجميع
.
ومن جهة ثانية فان مناداتنا برفع علم الإستقلال أحدثت صدى أسرع
، فقد أتخذنا من العلم الليبي الأصيل شعاراً للإتحاد الدستوري وأعدناه
إلى أذهان مواطنينا ولفتنا أنتباههم إلى الخدعة الرامية إلى ربط ذلك
العلم بشكل من أشكال الحكم أو بفترة زمنية معينة من عمر الدولة الليبية
. ولم تقف أمام حملتنا الحجج الواهية التى حاول البعض استخدامها لعرقلة
مساعينا . ذلك أن العلم الليبي الأصيل (بألوانه الثلاثة الأخضر والأحمر
يتوسطهما الأسود وفي داخله نجمة بيضاء وهلال) كان رمز أول دولة ليبية
مستقلة ، وقد صممته لهذه الغاية الجمعية الوطنية نفسها التى مثلت الشعب
ووضعت دستور البلاد . ولم يعد هنالك أي خلاف يذكر على كونه شعار
ليبيا الوطني الوحيد الذى يجب الاحتفاظ به أياً كان شكل نظام الحكم
فيها ، إلاَّ من بعض المكابرين هنا وهناك .
أما الشق الثالث والأكثر تعقيداً فقد تمثل في طرح القضية الدستورية
الجوهرية . فنحن رأينا دوماً أن الدستور الليبي الذى صاغه ممثلو
الشعب في سنة 1951 تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة وبالتعاون معها ، هو
القاعدة القومية التى يجب اللجوء إليها للتراجع السريع عن منزلق
الإنقلابات العسكرية ، وهو صمام الأمان الممكن في المرحلة الانتقالية
بعد القذافي ، كما أنه المنطلق الصحيح للمسيرة الحضارية المرجوة .
ومنذ بداية نشاطنا في هذا الخصوص وجدنا ، مثلما توقعنا أساساً ، إن
القلة التى مازالت تذكر الدستور من الشعب الليبي فقدت الأمل في إمكانية
إسترجاعه . أما الأغلبية فتحت تأثير الإعلام المضلل ، نسيت كل ما يمت
بصلة إلى الدساتير والقوانين بصفة عامة . ولكن ذلك لم يقف في طريقنا
ولم يضعف من تمسكنا بضرورة الحل الدستوري ورفض الإنقلابات
العسكرية جملة وتفصيلاً . والغريب في الأمر أن المعارضة الليبية وهى
تضم نخبة من المثقفين لم تنج من الوقوع في فخ تأييد فكرة الإنقلاب .
فقد كان التصور الوحيد لدى أغلب رموزها هو أنه لا سبيل إلى إخراج
البلاد من مأزقها الراهن إلا بإنقلاب عسكري "طيب القلب" . وليس
أدل على ذلك من أن قيادات عدة فصائل اجتمعت في القاهرة في آب (أغسطس)
1984 وناقشت بكل جدية مشروع ما أسمته بـ "ميثاق الشرف" ومؤداه
أن يتعهد الجميع مسبقاً ويرتبطوا بوعد شرف الإلتزام بالتعاون الكامل مع
الإنقلاب العسكري المنتظر "الذى ستقوم به القوى الخيّرة في قواتنا
المسلحة" على حد تعبير أصحاب المشروع .
ولقد أثمرت جهود الإتحاد الدستوري صحوة لدى الجماهير وحررت
الفكر الليبي من أسر الإعلام الإنقلابي وبلورت الحقيقة التى كادت أن
تطمس في أذهان الناس وهى أن سبب المأساة يكمن في تدمير القذافي
المتعمد للمؤسسات الدستورية في البلاد بعد سطوه على السلطة
وانفراده بها . وقد أصبحت الدعوة الدستورية موجة لا يمكن تجاهلها في
الشارع الليبي الذى برزت في حواراته الآن كلمتا "دستورنا" و
"علمنا" ، وصارت العودة إلى حكم الدستور ومؤسساته مطلباً شعبياً
يزداد ترسخاً مع الأيام . وبدأ الرأي العام ينفر من كل توجه سياسي غير
دستوري . وفي محاولة ماكرة لإحتواء تلك الموجة أو ركوبها وخلط الأوراق
للتشويش على دعوتنا المسموعة تفتق ذهن القذافي عن بديل للدستور
سماه "الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهير"
(ونلاحظ هنا نموذجاً لنزعة الأنظمة القمعية إلى إختيار تسميات طنانة
ظناً منها أن ذلك يضفى على المسميات هيبة خاصة). ومعلوم أن أول إجراء
أتخذه القذافي فور وصوله إلى السلطة كان إلغاء دستور البلاد كي يعفى
نظام حكمه من أي إلتزام مكتوب تجاه المواطنين وحقوقهم وحرياتهم .
وفجأة أصدر وثيقته الخضراء هذه في حزيران (يونيو) 1988 متطوعاً إلزام
نفسه كتابياً بإحترام بعض تلك الحقوق والحريات على الأقل . فلماذ ؟ .
وكيف يمكن لزعيم محرض على إغتيال مواطنيه جهاراً أن يتحول هكذا بين يوم
وليلة إلى داعية متحمس لحقوق الإنسان ؟ .
وأين الدلائل الحقيقية الملموسة على صدق هذا التحول وجديته ؟ .
إن أحد أسباب إلتزام الإتحاد الدستوري الليبي بدستور 1951
وإصراره عليه ورفضه أي بديل له ، كونه وثيقة مصادقاً عليها دولياً تضمن
كل الحقوق والحريات التى أنتزعها الشعب الليبي مع الإستقلال بعد أن دفع
ـ حسب الإحصائيات العالمية ـ نصف عدده ثمناً لها . وضمانة الحرية والحق
لم تأت هدية من أحد إذ ورثناها عن أبائنا وأجدادنا ولن نفرط فيها
لنتمتع بعدها ببعض الحرية ونحصل على بعض حقوقنا كصدقة وتفضل من حزب أو
زعيم أو فيلسوف منظر .
*
رئيس الإتحاد الدستوري الليبي .
|