لا يمكن
فهم العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل فهما صحيحاً شافياً
بدون الإحاطة بموضوع "الصهيونية المسيحية"؛ العقيدة الدينية التي يعتنقها
كثير من المسيحيين البروتستانت "الإنجيليين"، الذين يشكلون أكبر فئة دينية
مستقلة في أمريكا، تقدّر بأكثر من 25 % من تعداد السكان ، وذلك بحسب دراسة
تعود لمركز بيو
“PEW”
للأبحاث
لعام
2014.
أي ما يعادل أكثر من 82 مليون نسمة ... وبلغة الأصوات الانتخابية فهم
يشكلون ربع الناخبين الأمريكيين عدداً، ويمنحون أصواتهم -وتبرعاتهم
المالية- بطريقة منظمة للمرشح الذي يتوافق معهم فكرياً وعقائدياً، أو يضمن
لهم تحقيق أهدافهم وتطبيق مطالبهم، سواءً في الانتخابات الرئاسية، أو
الانتخابات لأحد المجلسين (الشيوخ أو النواب) في الكونجرس، أو حتى
الانتخابات المحلية لمناصب مثل عمدة المدينة أو حاكم الولاية، وغيرها من
المناصب. وعلى سبيل المثال فقد صوتوا بنسبة 78% لصالح الرئيس جورج بوش
(المتوافق معهم عقائدياً) في الانتخابات الرئاسية لسنة 2004، وشكل ذلك
حوالي 40% من إجمالي أصواته[i].
وصوتوا بنسبة 81% لصالح دونالد ترمب ( اللاديني والمتوافق معهم مصلحيّاً
فقط) في الانتخابات التي فاز فيها سنة 2016
ولها
ينتمي عدد من رؤساء أمريكا السابقين أمثال جورج بوش (الأب والابن)، ورونالد
ريجان، وجيمي كارتر، وهاري ترومان، ووُدْرو ويلسون وكثير غيرهم.
ولكن قبل
أن أتوسّع قليلا في هذا الموضوع ينبغي التنبيه إلى وجوب التحرر من الخلط
بينها وبين "الصهيونية اليهودية"، التي هي حركة سياسية استثمرت المفاهيم
الإنجيلية في أمريكا منذ بداية القرن الماضي لخدمة أغراض سياسية مختلفة إلى
حدٍ كبير عن مبادئ الصهيونية المسيحية الدينية الصرفة.
وحتى لا
أغرق في المصادر التاريخية الغنية بالمعلومات والحقائق فيتحول هذا البحث
إلى دراسة تاريخية، فسأحاول أن أقدّم -باختصار شديد- نبذة عن كل منهما،
وأنتهي إلى أن الانحياز الكامل -لحد تأييد الظلم- الذي تنتهجه الولايات
المتحدة لصالح إسرائيل في فلسطين هو نتيجة لتنامى النفوذ السياسي
للإنجيليين في أمريكا، وسلطتهم القوية في السياسة الخارجية للدولة...
*******
يقول نعومي تشومسكي، عالم اللغة والفيلسوف والعالم المعرفي والمؤرخ والناقد
الاجتماعي والناشط السياسي الأمريكي (اليهودي)، المعروف بآرائه المناهضة
لإسرائيل وانتقاداته الحادّة والصريحة لسياساتها التي يصفها بالاستعمارية،
وبرفضه لفكرة الأساس الديني الذي تقوم عليه دولة إسرائيل، يقول ان
"المسيحية الصهيونية قوة جبارة تعود إلى ما قبل الصهيونية اليهودية بوقت
طويل، في إنجلترا على وجه الخصوص"..... وأن "المسيحية الصهيونية كانت سلطة
قوية بين النخب البريطانية، وأنها كانت جزءً من الدافع وراء وعد بلفور"....
ويضيف بأن "كثير من الرؤساء الأمريكيين، على عقيدة ثابتة بأن عودة اليهود
إلى فلسطين هي أعظم حدث في التاريخ
[ii]....
وإضافة إلى ما قاله البروفيسور تشومسكي في هذه الجزئية نشير هنا إلى أن
ظهور الصهيونية المسيحية، التي تربط "مجيء المسيح الثاني" بإقامة دولة
يهودية في فلسطين، يعود إلى القرن السابع عشر في إنجلترا على يد حركة
الطهوريين "البيوريتان"، حيث تعالت الأصوات المسيحية عام 1615 بمطالبة
الحكومة البريطانية آنذاك بدعم اليهود "ليرجعوا إلى أرض الميعاد تحقيقاً
لنبوءات الكتاب المقدس"، وهو ما تحول إلى عقيدة لدى أوليفر كرومويل نفسه
(الشخصية المركزية في التاريخ البريطاني) والذي شغل منصب رئيس "المحفل
البيوريتاني" بين عامي
1649
و 1659
،
الذي نادى بوجوب توطين اليهود في الأراضي المقدسة في فلسطين.
.... وقد تعمّدت الاستهلال
بالنقل عن هذه الشخصية ذات المصداقية غير المتنازع عليها لأكفي نفسي
والقارئ الاستدلال بفقرات طويلة من مراجع تاريخية كثيرة تخلص إلى هذا
الاستنتاج.
التسمية
كما هو
معروف فإن كلمة صهيون التي منها اشتُق الاسم، والتي تعني "الحصن"، تشير إلى
أماكن متعددة في "العهد القديم" من الكتاب المقدس[iii]،
فهي تشير إلى واحد من التلّين الذَين كانت تقوم عليهما مدينة "أورشليم"
(القدس القديمة)، المعروف بجبل صهيون، وقتما كان يسكنها اليبوسيون
الكنعانيون، قبل أن يؤسس فيها نبي الله داوود عليه السلام عاصمة ملكه بعد
وقوعها في أيدي العبرانيين ... وتشير في مواضع أخرى في ذات المصدر إلى
أورشليم
بمجملها. فعلى سبيل المثال ورد في الإصحاح الحادي عشر من سِفر "أخبار
الأيام الأول": (( [4] وذهب داود وكل اسرائيل الى اورشليم، اي يبوس، وهناك
اليبوسيون سكان الارض.
[5]
وقال
سكان يبوس لداود لا تدخل الى هنا فأخذ داود حصن صهيون. هي مدينة داود)).
وقد
تكررت الكلمة 153 مرة في ذات المصدر.... بينما ذكرت في "العهد الجديد" من
الكتاب المقدس (الإنجيل) في 7 مواضع فقط، بصيغة "ابنة صهيون" في موضعين،
وبصيغة "صهيون" في 3 مواضع و "جبل صهيون في موضعين. .... ففي "مَتّى"/
إصحاح رقم 21: (([10] ولما دخل اورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟
[11]
فقالت
الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل]....
وفي "عبرانيون" / إصحاح رقم 12: [22]بل قد اتيتم الى جبل صهيون، والى مدينة
الله الحي. اورشليم السماوية، والى ربوات هم محفل ملائكة، [23]
وكنيسة ابكار مكتوبين في السماوات، والى الله ديان الجميع، والى ارواح
ابرار مكملين، [24]
والى وسيط العهد الجديد، يسوع، .)).[iv]
ما هي
الصهيونية المسيحية ؟
توصف
الصهيونية المسيحية في ويكيبيديا (الموسوعة الحرة)[v]
بأنها : "الاسم الذي يطلق عادة على مُعتقد جماعة من المسيحيين المنحدرين
غالباً من الكنائس البروتستانتية الأصولية والتي تؤمن بأن قيام دولة
إسرائيل عام
1948
كان ضرورة حتمية لأنها تتمّم نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد
وتشكل المقدمة لمجيء المسيح الثاني إلى الأرض كمَلكٍ منتصر. ويعتقد
الصهاينة المسيحيون أنه من واجبهم الدفاع عن الشعب اليهودي بشكل عام وعن
الدولة العبرية بشكل خاص، ويعارضون أي نقد أو معارضة لإسرائيل خاصة في
الولايات المتحدة الأمريكية حيث يشكلون جزءاً من اللوبي المؤيد لإسرائيل.".[انتهى
النقل عن ويكيبيديا].. ...وُتعرّف كذلك بأنها المسيحية التي تدعم
الصهيونية، ويطلق على من ينتمون إليها كذلك اسم "المسيحيون المتصهينون"،
الذين تمثّل فكرة عودة اليهود إلى فلسطين حجر الأساس في معتقداتهم، وأن أرض
فلسطين التاريخية هي ملك أبدي للشعب اليهودي، مستندين في ذلك على تفسير
حرفي لنصوص في الكتاب المقدس، منها على سبيل المثال ما ورد في الإصحاح رقم
[13] من "سِفر التكوين" في العهد القديم :(( [14] وقال الرب لأبرام، بعد
اعتزال لوط عنه: ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي انت فيه شمالا وجنوبا
وشرقا وغربا، [15]
لان جميع الارض التي انت ترى لك اعطيها ولنسلك الى الأبد
)) ...، وما ورد في الإصحاح رقم 26 والخطاب للنبي إسحاق عليه السلام:
(([1] وكان في الارض جوع غير الجوع الاول الذي كان في ايام ابراهيم، فذهب
اسحاق الى ابيمالك ملك الفلسطينيين، الى جرار [2]
وظهر له الرب وقال: لا تنزل الى مصر. اسكن في الارض التي اقول لك[3]
تغرب في هذه الارض فأكون معك وأباركك، لأني لك ولنسلك اعطي جميع هذه
البلاد، وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم ابيك.
[4]
وأكثر نسلك كنجوم السماء، واعطي نسلك جميع هذه البلاد، وتتبارك في نسلك
جميع امم الأرض ..))...(انتهى النقل عن الكتاب المقدس).
وقد دخل
هذا المعتقد إلى الولايات المتحدة مع المهاجرين الأوروبيين ذوي العقيدة
البروتستانتية الأصولية منذ بدايات القرن السابع عشر، ولعب دورا كبيرا في
تشكيل هوية الدولة الناشئة. وترجع جذور هذا المعتقد إلى نزعة دينية تعود
إلى القرن الأول للمسيحية تسمى النزعة "الألفية"
[vi]
(Millennialism)
نشأت في أوساط المسيحيين من أصل يهودي، جوهرها الاعتقاد
بأن المسيح سيعود إلى هذا العالم محاطا بالقديسين ليملك في الأرض ألف سنة.
وقد عمل معتنقو هذه العقيدة على تهيئة الظروف لعودة الشعب اليهودي إلى
"أرضه الموعودة" في فلسطين تمهيداً للعودة الثانية للمسيح وتأسيسه "مملكة
الألف الثاني".
نفوذ الصهيونية المسيحية في
أمريكا، وتأثيرها في السياسة الخارجية للدولة
إن
الاعتقاد السائد بأن "لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية" (أيْباك،
AIPAC
) هي
الداعم الأكبر لإسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية، والراعي الأكثر
تأثيرا لمصالحها، اعتقاد يحتاج إلى مراجعة وتصحيح بالرغم من كونها أقوى
جمعيات الضغط (اللوبي) على أعضاء الكونجرس الأمريكي، والتي يسعى أعضاء
المجلسين (نواباً وشيوخاً) إلى إرضائها وتجنّب سخَطها.
ذلك أن
المتابع لتطورات التنامي المضطرد لتيار اليمين المسيحي المحافظ في أمريكا
عبر الخمسة عقود الماضية سيرى بوضوح أن الصهيونية المسيحية هي في الواقع
القوة الحقيقية التي تضع مصلحة إسرائيل فوق كل اعتبار آخر، وتعمل بشتى
السُبُل والوسائل لضمان سيطرتها الكاملة على فلسطين، ليس بدافع التقاء
المصالح السياسية أو المنفعة الاقتصادية أو ما شابه ذلك من اعتبارات تتفاوت
بحسب الظروف والمتغيرات -ويمكن المساومة فيها- بل بدافع قناعات عقائدية
راسخة بأن ذلك حق وهبه الله لها، ومن أجل تحقيق نبوءات وردت في الكتاب
المقدس. فقد نشر مركز "بيو" للأبحاث الأمريكي على موقعه على الإنترنت
استبياناً يوضح أن المسيحيين الإنجيليين في أمريكا هم أكثر دعمًا لإسرائيل
من اليهود الأمريكيين!! وبمزيد من التفصيل فإن الاستبيان أظهر أن 55% من
المسيحيين أجابوا بنعم على سؤال عما إذا كان الله قد أعطى إسرائيل (فلسطين)
للشعب اليهودي، بينما أجاب 40% فقط من اليهود الأمريكيين بنعم على نفس
السؤال!!! أما الإنجيلون البيض فإنهم أجابوا بنسبة (82٪) بنعم، ولا يضاهيهم
في ذلك إلا اليهود الأرثودوكس والذين تصل نسبتهم إلى
84% !!![vii]
وقد تجلت
مظاهر ذلك بقوة في تحقيقها لحلُم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ المخالف
لسياسة أمريكا منذ تأسيس إسرائيل، والتي التزمت بها جميع الإدارات التي
سبقت إدارة الرئيس دونالد ترمب الحائز على رضاها ودعمها. وكما هو معروف فإن
العنصرين الأساسيين في تلك الصفقة هما نائبه مايك بينس، ووزير خارجيته مايك
بومبيو، المعروفان بشدة انتمائهما إلى الصهيونية المسيحية، فينسب إلى الأول
قوله في تصريحات علنية :أدلى بها في مارس 2019 أثناء حضوره لمؤتمر
"المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل" قال فيها: "إن النظر إلى إسرائيل هو
رؤية أن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يفي بوعوده".(وهو يشير هنا إلى ما ورد
في الإصحاح الثامن والعشرون من سِفر التكوين الذي يرد فيه أن الرب خاطب
يعقوب قائلا : "انا الرب إله ابراهيم ابيك واله اسحاق. الارض التي انت
مضطجع عليها اعطيها لك ولنسلك").[viii]..
ثم زاد بينس قائلا "مثلكم جميعًا، ينبع شغفي بإسرائيل من إيماني المسيحي،
فقد كانت أناشيد الأرض وشعب إسرائيل ترانيم شبابي. أما أنا وبيتي، فإننا
نصلي من أجل سلام القدس وكل من يسمونها موطنهم... إنه حقًا أعظم امتياز في
حياتي أن أخدم كنائب لرئيس يهتم بشدة بحليفتنا العزيزة! " ....وينسب إلى
الثاني قوله في مقابلة تلفزيونية عقب زيارته لحائط المبكى صحبة رئيس
الوزراء نتنياهو أن الله ربما أرسل الرئيس ترمب لحماية إسرائيل، مضيفاً بأن
دينه هو ما دفعه للإيمان بذلك!!
[ix]
أما أكثر
التصريحات إثارة للدهشة فهو اعتراف الرئيس ترمب في حديثه أثناء تجمع
انتخابي في ولاية ويسكنسن في أغسطس الماضي[x]
بأن قراره بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس كان من أجل
الإنجيليين، وزاد قائلاً "الإنجيليون متحمسون لذلك أكثر من الشعب
اليهودي.... هذا صحيح حقًا، إنه أمر لا يصدق " !!!
وهناك
مثال آخر صارخ لا يمكن إغفاله في هذا السياق، هو التطرف الأعمى الذي دفع
الرئيس جورج دبليو بوش إلى غزو العراق لأنه "تلقى وحيا من السماء لإعلان
الحرب على العراق، لأن يأجوج انبعث في الشرق الأوسط" !!! وأن "نبوءة الكتاب
المقدس حول يأجوج ومأجوج (Gog
&
Magog)بصدد
التحقّق هناك" !!! جاءت تصريحات بوش أثناء حديثه الهاتفي مع الرئيس الفرنسي
جاك شيراك عندما كان يسعى إلى إقناعه بانضمام فرنسا إلى التحالف الذي دمّر
العراق. وقد أثارت تلك التصريحات العجيبة زوبعة في وسائل الإعلام بعد عدة
سنوات من تلك الحرب المدمرة، عقب تسرب تفاصيل مكالمات جورج بوش المتواصلة
للرئيس الفرنسي الذي لم يوافق على إقحام بلاده في تلك الحرب المجنونة.
[xi]
وقد بينت
المصادر في ذلك الوقت أن الرئيس بوش كان يشير إلى ما ورد في الاصحاح رقم 38
من سِفر حزقيال الذي يرد فيه : (( [1]
وكان
الي كلام الرب قائلا [2]
يا
ابن ادم اجعل وجهك على جوج أرض ماجوج رئيس روش ماشك وطوبال وتنبأ عليه [3]
وقل هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك يا جوج رئيس روش ماشك وطوبال.
[4]
وارجعك
وأضع شكائم في فكيك واخرجك انت وكل جيشك ....((.......)) ...
[18]
ويكون
في ذلك اليوم يوم مجيء جوج على ارض اسرائيل يقول السيد الرب ان غضبي يصعد
في انفي.
[19]
وفي
غيرتي في نار سخطي تكلمت انه في ذلك اليوم يكون رعش عظيم في ارض إسرائيل
[20]
فترعش
امامي سمك البحر وطيور السماء ووحوش الحقل والدابات التي تدب على الارض وكل
الناس الذين على وجه الارض وتندك الجبال وتسقط المعاقل وتسقط كل الاسوار
الى الارض.))
...(انتهى النقل من الكتاب المقدس)
السفارة
المسيحية الدولية في القدس (ICEJ)
بالإضافة
إلى "منظمات اليمين المسيحي" الأمريكية المتعددة وذات النفوذ القوي مثل
"اتحاد المسيحيين من أجل إسرائيل"، و"الأصدقاء الأنجليكانيون لإسرائيل"،
وكثير غيرها، يذهب بعضها إلى التصريح العلني بمعتقداتهم بأن "الوقوف ضد
إسرائيل هو معارضة لله"، ويذهب البعض الآخر إلى الإعلان بأن معارضة إسرائيل
أو مصارعتها يُعدّ "تحدياً لإرادة الله"، فإن جماعات الضغط الصهيونية في
أمريكا تلعب دورا كبيراً -يصعب حصره أو قياس ضخامة حجمه- في دعم إسرائيل
وممارسة الضغط (اللوبي) على كافة المستويات السياسية، والتشريعية،
والسياسية لتحقيق مصلحتها والذود عنها. أتناول منها هنا على سبيل المثال
منظمة "السفارة المسيحية الدولية في القدس (ICEJ)."،
وهي منظمة مسيحية صهيونية تصف نفسها على موقعها الرسمي على الانترنت بأنها
تأسست "كاستجابة إنجيلية لضرورة مواساة صهيون وفقًا لأمر الكتاب المقدس
الموجود في الإصحاح رقم 40 من سِفر إشعياء. الذي فيه يقول ربكم عَزّوا شعبي
وطيبوا قلب اورشليم!
[xii]...
وأن من بين الأهداف التي تأسست من أجلها هو : " أن نكون جزءًا من مقاصد
الله العظيمة في إعادة اليهود إلى إسرائيل.".....
وتعرف "الصهيونية المسيحية" -في ذات الموقع- بأنها "الإيمان بأن أرض كنعان
ملكية أبدية للشعب اليهودي".[xiii]...
وقد تأسست هذه المنظمة في القسم الغربي من مدينة القدس في شهر سبتمبر 1980،
ردا على نقل عدة دول لسفاراتها من القدس إلى تل أبيب، تنفيذا لقرار مجلس
الأمن رقم 478 الصادر في 20 أغسطس 1980، والذي ينص على عدم شرعية ما أسمته
بـ "قانون القدس" الذي سنّه الكنيست الإسرائيلي في شهر يوليو 1980 والذي
يشرّع ضم شرق القدس إلى إسرائيل واعتبار القدس الموحدة عاصمة لها، معتبرا
أنه يُعدّ خرقاً للقانون الدولي، وطالب قرار مجلس الأمن الدول التي لها
سفارات في القدس بإخراج سفاراتها منها.
ويقضي
برنامج هذه السفارة بأن يكون لها مركز في كل ولاية في أمريكا، يقوم على رأس
كل مركز رجل دين صهيوني مسيحي برتبة قنصل. مهمة هذه المراكز هي تنظيم
التجمعات والمظاهرات المؤيدة لإسرائيل، وجمع التبرعات والمساعدات، وتشجيع
الشعب الأميركي على شراء السلع والمنتجات الإسرائيلية.
.... وتجاوبا مع الضغط الذي مارسته هذه المنظمة أصدر الكونغرس الأمريكي في
أكتوبر 1995 قانوناً يعترف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، إلا أن هذا القانون
يسمح للرئيس الأمريكي بتأجيل تطبيقه كل 6 أشهر، وهذا ما كان يفعله الرؤساء
الأمريكان منذ 1995 حتى ديسمبر 2017.
لاهوت
الازدهار الاقتصادي
لم يعُد
لاهوت "العودة الثانية للمسيح وتأسيسه مملكة الألف الثاني ... الخ ."... هو
المرتكز اللاهوتي الوحيد الذي تستند عليه المسيحية الإنجيلية لتوسيع دائرة
نفوذها في أرجاء العالم المسيحي قاطبة، بل أضافت إليه عنصراً يسميه
المتابعون لهذه الظاهرة بـ "لاهوت الازدهار الاقتصادي" (prosperity
theology)،
الذي يُحدث بريقه أصداءً واسعة في أوساط المجتمعات المسيحية في بقاع متفرقة
من العالم، أدى إلى تنوّع مكوّناتها البشرية وزيادة أعدادها إلى أضعافهم في
الولايات المتحدة. ويرصد المتابعون لهذا التمدد دولا مثل البرازيل والصين
وجنوب أفريقيا ونيجيريا وكوريا الجنوبية، وغيرها من المجتمعات -غير
البيضاء- التي يمتد فيها زحفها بشكل لافت
[xiv]
وباختصار
شديد فإن هذا الأسلوب التبشيري يربط بين الرخاء والازدهار الاقتصادي وبين
دعم إسرائيل، وذلك من خلال تفسيرات انتقائيّة لنصوص محددة من الكتاب المقدس
تذكر البركة والمباركة والازدهار لمن يقدم الدعم إلى "الأمة العظيمة"،
واللعن والبؤس والفقر لمن يعاديها... فقد جاء في الإصحاح الثاني عشر من
سِفر التكوين: (([1] وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ : «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ
وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ.
[2] فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ،
وَتَكُونَ بَرَكَةً.
[3] وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ
فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ)).وقد
فسر المسيحيون الصهيونيون هذه الآيات بأنها تعني وبكل بساطة أن الأمة
العظيمة هي ” دولة إسرائيل” وأن بقية الأمم، أو الدول ستنالها البركة، أي
الرخاء والازدهار بلغة هذا العصر،
من خلال دعمها لإسرائيل، وإن لم تفعل فسيحق عليها ما نُص عليه في الكتاب
المقدس من فقر وبؤس ولعن من الله.
وتفادياً
للإطالة ومن أجل توصيل جوهر ما يعِدُون به عن طريق هذا الأسلوب سأكتفي
بعبارة تنسب إلى الإنجيلية ” باولا وايت
Paula White ”
"
مستشارة الرئيس ترامب للشؤون الروحية"، قالت فيها لأتباعها: ” إن الله
سيفتح أبواب الرخاء المالي والفرص والحظوة والمعجزات فوق الطبيعية" لمعتنقي
عقائدها
[xv]!!.
ولمن لا يعرف القس باولا وايت فهي رئيسة "المجلس الاستشاري الإنجيلي"، التي
تقول عن نفسها في موقعها الرسمي: "لقد قادني إيماني وقناعاتي الراسخة إلى
الوقوف إلى جانب إسرائيل ودعمها بكل طريقة ممكنة"، وإني "أفتخر بتأييدي
لإسرائيل والشعب اليهودي
"...
وقد استحقت القس باولا وايت نتيجة لهذا الحماس والتأييد بلا حدود صفة
"واحدة من أفضل 50 متحالفاً مسيحياً مع إسرائيل" من قِبل "كتلة الحلفاء
المسيحيين في الكنيست الإسرائيلي". وهو ما تفتخر بنشره في مكان بارز على
صفحتها الرسمية[xvi].
*******
الصهيونية اليهودية
على
النقيض من "الصهيونية المسيحية" فإن الصهيونية اليهودية هي حركة -سياسية-
ظهرت في أوروبا
في أواخر القرن التاسع عشر لحثّ اليهود
على الهجرة إلى أرض فلسطين
بدعوى أنها أرض الآباء والأجداد (إيريتس يتسرائيل)، ودعت اليهود في الشتات
إلى رفض الاندماج في المجتمعات التي يقيمون بين ظهرانيها من أجل التحرر من
معاداة السامية التي بدأت تكشر عن أنيابها في القارة الأوروبية حينئذ ؛
والنجاة من الاضطهاد والقهر الذي وقع
عليهم فيها، والذي بلغ ذروة وحشيته على يد هتلر وشياطينه في ألمانيا
النازية في صفحة مخزية من تاريخ البشرية الحديث يخجل منها إبليس نفسه، ثم
تطورت إلى المطالبة بإنشاء دولة لليهود في فلسطين عقب مؤتمرها الأول الذي
عقد في أغسطس 1897 بمدينة بازل السويسرية، برئاسة "أب الصهيونية السياسية
الحديثة" ثيودور هرتزل
[xvii]
والذي
صار يُعرّف رسميًا في إسرائيل باسم "الأب الروحي للدولة اليهودية"،
والذي حدد في خطاب الافتتاح أن هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لوطن قومي
لليهود، ليتم منذئذ تطبيق الصهيونية بشكل عملي على فلسطين من خلال
"الصهيونية الاستيطانية"، وهي التي تعمل على
تجميع اليهود من شتى بقاع العالم وتوطينهم في فلسطين، وكذلك "الصهيونية
التدعيمية" التي تهدف إلى تجنيد يهود العالم في أوطانهم المختلفة في جماعات
ضغط تعمل من أجل الاستيطان والمستوطنين وجباية العون المالي من يهود
الشتات، ويتحرك الفريقان ضمن إطار تنظيمي واحد، هو "المنظمة الصهيونية
العالمية"، وذراعها التنفيذي "الوكالة اليهودية" الذي لعبت من خلاله الدور
الرئيس في الحصول على "وعد بلفور" سنة 1917.
وقد
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 نوفمبر 1975 القرار رقم 3379،
الذي يقضي بأن "الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية
والتمييز العنصري" ، وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية
الصهيونية التي تشكل - حسب القرار - خطرًا على الأمن والسلم العالمي...
لكن
الدبلوماسية الإسرائيلية نجحت في إلغاء هذا القرار سنة 1991 بعد أن جعلت
إلغاءه شرطاً لمشاركة إسرائيل في مؤتمر مدريد للسلام.!!!
وكما
بدأت هذا البحث بقول للبروفيسور اليهودي المرموق نعومي تشومسكي، فإني أختمه
بقول المؤرخ
الإسرائيلي البارز البروفيسور "إيلان بابيه"، الناشط الاشتراكي والأستاذ
بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر
بالمملكة المتحدة، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، عن
الصهيونية اليهودية الذي يقول فيه:
((غالبية الصهاينة لا يؤمنون بالله،
ولكنهم يعتقدون بأن الله وعدهم بفلسطين !))
[xviii].
[iv]
المصدر السابق (موقع الكتاب المقدس)
[ix]
Pompeo says
God may have sent Trump to save Israel from Iran(موقع
بي بي سي)
|